نفذت روسيا أكبر هجوم جوي لها منذ بداية الحرب في أوكرانيا في السابع من سبتمبر، مستهدفة المبنى الرئيسي لمجلس الوزراء الأوكراني في كييف؛ وهو المبنى الذي يضم مجلس الوزراء ومكاتب الوزراء.
خلال العام الماضي، بدأت إدارة ترامب، التي لعبت بلادها دوراً محورياً في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، جهوداً جديدة وحثيثة لإرساء وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق بين أوكرانيا وروسيا. ومع ذلك، اصطدمت هذه الجهود حتى الآن بجدار المطالب القصوى لفلاديمير بوتين.
في غضون ذلك، تضاءلت مطالب الولايات المتحدة من الحرب الأوكرانية، بينما ازدادت مطالب روسيا؛ لكن لا تزال لا توجد أي مؤشرات على وقف إطلاق نار جديد بين البلدين.
لقد تحولت الحرب الأوكرانية، التي بدأت في 24 فبراير 2022، الآن إلى قضية معقدة وغامضة ومليئة بالشكوك، ويلعب فيها العديد من الفاعلين أدواراً مختلفة. إن استعراض الأشهر الـ 52 الماضية، أي منذ بداية الحرب حتى الآن، يطرح سؤالين كبيرين أمام محللي العلاقات الدولية:
١- في عصر تُخطط فيه الحروب لتكون قصيرة ومجدولة زمنياً، لماذا تحولت حرب أوكرانيا إلى حرب استنزاف؟
٢- بينما كانت روسيا تتصور أنها ستنهي الحرب في غضون أسبوعين وخططت لحرب قصيرة، لماذا ترفض الآن وقف إطلاق النار بعد مرور 52 شهراً؟
في الإجابة على السؤال الأول، يجب القول إن حرب أوكرانيا أصبحت أحد المكونات الرئيسية لتكثيف تشكّل التكتلات في النظام الدولي والانتقال من النظام القديم إلى نظام دولي جديد. وتُعد أمريكا وأوروبا وروسيا والصين اللاعبين الرئيسيين في تشكيل التكتلات الجديدة، وفي نهاية المطاف، النظام الدولي المستقبلي، وستكون نتيجة حرب أوكرانيا حاسمة جداً في تحديد هيكل هذا النظام. لقد اعتبر ستيفن والت، منظر الواقعية الدفاعية، أن حرب أوكرانيا هي نهاية للنظام أحادي القطب الذي تقوده أمريكا. وفي مقال نشره عام 2022 في مجلة "فورين بوليسي"، حاجج والت بأن هذه الحرب تُظهر نهاية حقبة القطبية الأحادية الأمريكية وتعيد العالم إلى وضع يمكن تفسيره على أفضل وجه من خلال الواقعية. وقد كتب والت في ذلك المقال:
مهما كانت نتيجة الحرب في أوكرانيا، يعتقد العديد من المراقبين أن الحرب سيكون لها تأثير عميق على الظروف الأوسع للسياسة العالمية. إنها مفترق طرق كبير. إذا تعرضت روسيا لهزيمة كبرى، فإن النظام العالمي الليبرالي سينتعش وستمنى القوات الروسية بهزيمة فادحة. أما مع انتصار روسي محتمل، فسيتم إضعاف المعايير العالمية المناهضة للاستيلاء على الأراضي بالقوة، ومن المحتمل أن تشعر أطراف أخرى بالجرأة لشن حملات مماثلة كلما مالت الأوضاع الجيوسياسية لصالحها. بالإضافة إلى ذلك، أرى (والت) القصة بشكل مختلف. الحرب في أوكرانيا حدث مهم؛ ولكن ليس لأن نتيجتها سيكون لها تأثير مستقل كبير على توازن القوى العالمي أو البيئة المعيارية التي بنتها الدول؛ بل هي مهمة لأنها تمثل نهاية "اللحظة أحادية القطب" التي كانت فيها الولايات المتحدة القوة العظمى الحقيقية الوحيدة في العالم. لم يكن مقدراً للحظة أحادية القطب أن تدوم إلى الأبد، لكن الأخطاء الفادحة التي لم يُحاسب عليها أحد عجلت بزوالها المبكر. من ناحية أخرى، ما يختلف في الحرب الحالية هو أنه لأول مرة منذ أوائل التسعينيات - ولكن ليس للمرة الأولى في التاريخ - توجد قوى عظمى متنافسة على طرفي نقيض في حرب كبرى. هذه عودة إلى الأنماط المألوفة لصراعات القوى العظمى (والحروب بالوكالة)، وليست شيئاً جديداً أو فريداً.
قبل بدء حرب أوكرانيا، كان منظرو الواقعية يعتقدون أنه يجب على الولايات المتحدة تشكيل تحالف إقليمي في آسيا لاحتواء القوة المتنامية للصين، وحتى التعاون مع روسيا في هذا الصدد. لكن حرب أوكرانيا حرفت هذا الجهد الاستراتيجي عن مساره:
1. أبعدت تركيز أمريكا عن شرق آسيا (باعتباره بؤرة التوتر الرئيسية مع بكين).
2. فصلت روسيا تماماً عن المعسكر الغربي ودفعتها نحو الصين.
في غضون ذلك، تبنت الصين سياسة ذكية تجاه حرب أوكرانيا: فبينما حافظت بكين على ولائها لصداقتها مع موسكو قبل الحرب، استغلت هذه الأزمة للاستفادة من الانحدار الحتمي للنظام الأمريكي أحادي القطب. إن تعميق العلاقات مع روسيا بعد الحرب، بالتزامن مع عدم المشاركة المباشرة في النزاع، جاء في إطار سعي الصين لهندسة إعادة تشكيل التكتلات في النظام الدولي.
حلم الصين هو إنشاء نظام عالمي بديل للنظام الليبرالي الغربي؛ نظام يكون للصين فيه حصة كبيرة، وتتحول فيه كقوة صاعدة إلى قطب جديد في النظام الدولي.
يرغب كل من شي جين بينغ وبوتين في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ لعدد قليل من القوى الكبرى: الصين تهيمن على شرق آسيا، وروسيا تمتلك حق النقض (الفيتو) على أمن أوروبا بأكملها، والولايات المتحدة تقتصر على أوروبا الغربية وفنائها الخلفي عبر الأطلسي.
إن الإجابة على السؤال الأول تسهل أيضاً الإجابة على السؤال الثاني. لقد انجرت روسيا رغماً عنها إلى حرب استنزاف لم تكن قد خططت لها. ومن نتائج هذه الحرب تراجع نفوذ روسيا في مناطق أخرى، بما في ذلك القوقاز والشرق الأوسط. وكانت نتيجة ذلك سقوط حكومة بشار الأسد، وزيادة نفوذ المنافسين مثل تركيا وإسرائيل في فراغ القوة الذي أحدثته روسيا في البحر الأبيض المتوسط. كما أن نفوذ أمريكا وتركيا في القوقاز، الذي تجلى في اتفاقية إنشاء ممر زنكازور، كان من نتائج تراجع النفوذ الروسي في القوقاز. لكن التكلفة الأهم لروسيا كانت فرض عقوبات منظمة من قبل الكتلة الغربية ضدها، مما قلص حصتها في شبكة التجارة العالمية بشكل حاد ووضعها في مواجهة أزمات اقتصادية متزايدة ومستمرة.
الآن، يفرض منطق البقاء في الهيكل الفوضوي للنظام الدولي وفي فترة الانتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد على بوتين أن يستغل أقصى استفادة من روافعه الأمنية والسياسية المتاحة في النظام الدولي. إن الساحة الوحيدة المتبقية لروسيا للحفاظ على مكانتها العالمية والمساومة مع الغرب هي الحرب مع أوكرانيا. لقد خرج الاقتصاد الروسي من الصدمة الأولية للعقوبات وهو في طور التكيف معها. ويعتقد بعض الخبراء أن الاقتصاد الروسي قد "تأقلم" مع العقوبات.
من ناحية أخرى، أصبحت روافع المساومة الروسية في البحر الأبيض المتوسط والقوقاز محدودة، وقد تنازلت إلى حد كبير عن الميدان الاستراتيجي هناك للمنافسين. إن حرب أوكرانيا هي الجبهة الأخيرة لبوتين للمطالبة بحصة في النظام الدولي المستقبلي والتواجد ضمن تكتل القوى العظمى.
سيد محمد حسيني، خبير أول في مركز الدراسات السياسية والدولية
إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة