ممر زنغزور: الجذور والتداعيات بالنسبة لإيران

يعلّمنا مبدأ أساسي في الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) أن الفراغ في السلطة لا يبقى فارغًا أبدًا، بل يملأه المنافسون دائمًا. ويُعد الاتفاق الأخير بين أذربيجان وأرمينيا لإنشاء ممر زنغزور، الذي تم التوصل إليه بوساطة أمريكية، مثالًا حيًا على هذا المبدأ. هذا الاتفاق ليس نتاج مشاورات دبلوماسية قصيرة المدى، بل هو نتيجة لتراكم وتلاقي سلسلة من العوامل المتعددة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية على مر السنين. لهذا السبب، يُعتبر إنشاء ممر زنغزور أزمة جيوسياسية حقيقية بالنسبة لإيران.
19 صفر 1447
سید محمد حسینی

يعلّمنا مبدأ أساسي في الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) أن الفراغ في السلطة لا يبقى فارغًا أبدًا، بل يملأه المنافسون دائمًا. ويُعد الاتفاق الأخير بين أذربيجان وأرمينيا لإنشاء ممر زنغزور، الذي تم التوصل إليه بوساطة أمريكية، مثالًا حيًا على هذا المبدأ. هذا الاتفاق ليس نتاج مشاورات دبلوماسية قصيرة المدى، بل هو نتيجة لتراكم وتلاقي سلسلة من العوامل المتعددة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية على مر السنين. لهذا السبب، يُعتبر إنشاء ممر زنغزور أزمة جيوسياسية حقيقية بالنسبة لإيران.

ما هي آثار ممر زنغزور على منطقة القوقاز؟

سيُسهم إنشاء هذا الممر في تقليل النزاع الإقليمي بين أذربيجان وأرمينيا، وسيكون اتفاقًا محققًا للاستقرار لهذين البلدين، مما يمهد الطريق للتعاون والسلام الدائم بينهما. من هذا المنطلق، فإن إنشاء ممر زنغزور مفيد لإيران بفضل السلام الذي سيحققه بين جارتيها الشماليتين.

لكن من ناحية أخرى، سيغير ممر زنغزور توازن القوى الإقليمي لصالح أذربيجان وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى حساب إيران وروسيا. سيؤدي الممر إلى تقليص نفوذ روسيا وإيران في القوقاز، بينما سيزيد من نفوذ الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل في جنوب القوقاز. إن الدور الأمريكي كوسيط في ممر زنغزور سيمهد الطريق في المستقبل لإمكانية تمركز حلف الناتو على الحدود الشمالية لإيران. بالإضافة إلى ذلك، سيصبح ممر التواصل الإيراني مع أوروبا محدودًا وخاضعًا لإشراف الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان.

سيربط ممر زنغزور إقليم ناخيتشيفان المنفصل بأذربيجان، وبذلك ستفقد إيران ورقة ضغطها الجيوسياسية على أذربيجان. ورغم أن هذا الممر هو اتفاق بين أرمينيا والولايات المتحدة، وأن كل دولة حرة في تأجير جزء من أراضيها لدولة أجنبية، إلا أن النتيجة العملية للوساطة الأمريكية في ممر زنغزور هي أن تصبح الولايات المتحدة حائلًا بين أرمينيا وإيران. وبذلك، ستفقد إيران عمليًا أحد جيرانها، وللوصول إلى أوروبا عبر الأراضي الأرمينية، ستضطر حتمًا إلى المرور عبر ممر (تجاري) أمريكي.

يجب أن نعتبر ممر زنغزور نتيجة لعملية سياسية واقتصادية تشكلت على مدى السنوات الأخيرة في منطقة القوقاز في إطار اتجاهات مستقبلية، والآن، بعد سنوات، أثمرت هذه الاتجاهات مجتمعة، وقدمت "ثمرة زنغزور" للجهات الفاعلة المستفيدة. فما هي هذه الاتجاهات التي تمثل في الواقع جذور ممر زنغزور؟

 الجذور الكامنة وراء الممر

  1. على المستوى المنهجي، يُعد زنغزور نتاج فترة الانتقال من النظام الدولي القديم إلى النظام الجديد. يسعى كل من حاملي النظام القديم والقوى الناشئة في النظام الدولي إلى التغلغل في الأنظمة الفرعية للمطالبة بحصصهم وتثبيت مواقعهم في النظام الدولي المستقبلي.
  2. أدى ارتقاء المكانة الجيوسياسية لروسيا والجاذبية الجيوستراتيجية والجيواقتصادية لجنوب القوقاز بالنسبة للقوى الغربية وإسرائيل، إلى زيادة اهتمام القوى المنافسة بهذه المنطقة خلال السنوات الماضية.
  3. كان تراجع النفوذ الجيوسياسي لروسيا في القوقاز، عقب هجومها على أوكرانيا وتوسع العلاقات السياسية لدول القوقاز مع أوروبا وأمريكا، عاملاً ممهدًا لهذا التحول الجيوسياسي.
  4. لعب تراجع النفوذ الجيوسياسي لإيران في القوقاز دورًا في هذا التحول على مر السنين. فالصراع الإيراني مع إسرائيل والمواجهة النشطة مع الولايات المتحدة قد استنزفا طاقة كبيرة من السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة في العشرين عامًا الماضية. كما أن الأزمات المختلفة في الخليج والظهور الدوري لتهديدات أمنية متنوعة في المناطق الشرقية لإيران، قد حالا دون تمكين السياسة الخارجية الإيرانية من القيام بدور فاعل في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
  5. أدى التغلغل البطيء لتركيا في القوقاز وتشكيل المحور التركي الأذري، في خضم الابتعاد القسري لروسيا وإيران عن جنوب القوقاز، إلى تمهيد الطريق لهذا التحول الجيوسياسي في المنطقة.
  6. أدى الاستقطاب الثنائي في النظام الدولي بعد حرب أوكرانيا وضم إيران إلى جانب روسيا في هذا الصراع، إلى دفع أذربيجان وأرمينيا نحو المعسكر الغربي.
  7. كانت نتيجة هذه التحولات تشكيل تحالف إقليمي غير مكتوب بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وأذربيجان والدول العربية الحليفة للولايات المتحدة. وفي ظل هذا الوضع والعزلة الاستراتيجية، لم يكن أمام أرمينيا "خيار سوى التسليم والرضا".
  8. يُعد ممر زنغزور مثالًا جديدًا على عملية "تهميش إيران" من الممرات الإقليمية الهامة، وهي عملية بدأت منذ سنوات في محيط إيران (مفهوم انعدام الأهمية أو Irrelevance).
  9. بالنظر إلى التطورات الإقليمية بعد 7 أكتوبر والمشروع الإسرائيلي الأوسع لإضعاف إيران ومحور المقاومة، فمن المحتمل أن اللوبيات الصهيونية قد لعبت دورًا خاصًا خلف الكواليس في الاتفاق بين أذربيجان وأرمينيا بوساطة أمريكية (وهو ما يفسره الترحيب السريع من بنيامين نتنياهو بالاتفاق!).
  10. أدى شيوع خطاب "السلام من خلال التجارة المستدامة" إلى توصل أرمينيا وأذربيجان إلى نتيجة مفادها أن حل نزاعهما التاريخي يمكن تسهيله من خلال "الاندماج في شبكة التجارة الدولية"، وبناءً على ذلك، وافقتا على الوساطة الأمريكية في إنشاء وإدارة ممر زنغزور.

 توصيات سياسية لإيران

  1. التقاعس في القوقاز، للأسباب المذكورة، يمكن أن يعزز عملية "تهميش إيران" في هذه المنطقة.
  2. تحقيق التوازن في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه محيطها الإقليمي يتطلب حل التحدي الأكبر للسياسة الخارجية الإيرانية على مدى العقدين الماضيين، أي الصراع مع الولايات المتحدة بشأن القضية النووية.
  3. تعزيز العلاقات الثنائية بين إيران وكل من تركيا وروسيا وفق أجندة شاملة، من شأنه أن يحافظ على نفوذ إيران الإقليمي في القوقاز ويعززه.
  4. أصبح الوجود الإسرائيلي في جنوب القوقاز الآن يمثل تهديدًا إقليميًا لإيران أكثر من أي وقت مضى.
  5. في المستقبل، سيشكل تعزيز "القومية التركية الطورانية" (البانتركية) في جنوب القوقاز تهديدًا لإيران يوازي في خطورته الوجود الإسرائيلي.
  6. بدأت السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة القوقاز تتخذ أبعادًا أمنية تدريجيًا، ويبدو أنها تحتاج إلى قرارات استراتيجية على مستويات عليا.
  7. لطالما استندت السياسة الخارجية الإيرانية في القوقاز إلى المتطلبات الجيوسياسية؛ لذا، فإن النهج العملي (البراغماتية) في هذه المنطقة أسهل من غيرها. يمكن للمهارة والخبرة التي يتمتع بها الدكتور لاريجاني، الأمين الجديد للمجلس الأعلى للأمن القومي، في التحركات البراغماتية والفاعلة، أن تحافظ على قنوات التأثير المتبقية لإيران في القوقاز وتعززها.

سيد محمد حسيني، خبير أول في مركز الدراسات السياسية والدولية

    "إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است