١. أمّة الأسطورة، في قلب النيران
انشقت سماء إيران. صواريخُ قادمةٌ من بعيد، هوت ليلاً على السطوح الصامتة. في تلك الليلة، تمزّق حلم الوطن من ألف جهة، وجثم على الأرواح خوفٌ ثقيل. قفز طفل من فراشه، ركضت أمٌّ نحو النافذة، وأيقظ دويُّ الانفجار ألف ذكرى نائمة من الحرب في الصدور.
ولكن، من صميم هذه الصدمة والركام، نهض شيءٌ أقدم من صفارات الإنذار والهجمات المضادة: السردية. ذاكرة الصمود. ذلك الإحساس المشترك الذي جرى آلاف السنين في عروق هذه الأمّة، دون أن نكون على وعي به دائمًا. وحين دوّى أول نظام دفاع جوي في عنان السماء، أدرك الجميع في صمتٍ أن هذه ليست مجرد معركة عسكرية؛ بل هي إعادةُ قراءةٍ لنموذجٍ أصيل. إنها المعركة الأزلية بين الخير والشر، والدفاع عن تراب ليس مجرد أرض، بل هو تاريخنا بأسره.
هنا يكتسب خطاب المقاومة الإيراني معناه: نحن نحارب، لا لمجرد البقاء، بل ليبقى جوهر "إيران" ومعناها حيًّا. قد يسعى العدو إلى إسكات بضعة أنظمة دفاعية أو مطارات، لكن هدفه الحقيقي هو روحنا الوطنية؛ تلك الروح التي ورثناها من الفردوسي ورستم، وصولًا إلى همّت وباكري.
في تلك الحرب التي دامت اثني عشر يومًا، أحيينا أبطالنا القدماء في هيئة جديدة. لم تعد الشاهنامه حبيسة رفوف المكتبات؛ بل كانت تتنفس في الشوارع. كانت تتجسد في نظرة جندي ساهرة على الحدود، وفي ابتسامة فتاة قالت: "إيران لن تموت"، وفي كل قطرة دمٍ أُريقت، كان يجري بيتٌ من الشعر الملحمي.
لقد أجبنا ردًّا من جنس الفولاذ، لكننا صمدنا بقوة "الذاكرة". ذاكرة أن رستم لم يعد في زابل وحدها؛ إنه اليوم يعيش في طهران وأصفهان وتبريز ومشهد، في قلوب شبّان، وإن لم يحملوا سيوفًا، فقد ربّوا في صدورهم عزمَ "تهمتن" الجبّار.
٢. عودة آرش والأبطال الصامتون
تموت الأسماء في ظاهرها، لكن الأبطال الحقيقيين يظلون أحياءً في الذاكرة الجمعية لأمةٍ ما؛ لأنهم يحملون على عاتقهم عبء المعنى.
لقد ظن الأعداء أن إيران اليوم، الغارقة في روتين الحياة اليومية والواهنة، قد ابتعدت عن أساطيرها. لكنهم كانوا مخطئين جدًا. لم يدركوا أننا أمّة آرش؛ ليس في الحكايا، بل في الفعل. آرش حينما شدّ قوسه، لم يكن فعله من أجل الحرب، بل من أجل ترسيم الحدود. لقد وضع روحه في السهم كي لا تبقى إيران بلا أرض.
واليوم، نهض آلافٌ من أمثال آرش من بين هؤلاء الناس: ذلك الجندي الذي وجّه نظام الدفاع في صمت؛ وذلك الفني الذي أعاد الكهرباء إلى المدينة تحت نيران القصف؛ وتلك الممرضة التي انتشلت أباها من تحت الأنقاض في ضجيج الانفجار، وقالت بابتسامة: "لا يهم إن بقيتُ أنا أم لا، المهم أن تبقى إيران". نعم، هؤلاء جميعًا هم أبناء آرش.
هذا هو خطاب المقاومة الإيراني؛ مقاومة لا تعني النزعة القتالية، بل تعني صون الهوية التاريخية. في عصر الخداع والإعلام، صمدنا بالاعتماد على ذاكرةٍ كُتبت بالدماء. كان رستم في حقل الألغام، وكان سياوش يركض في أروقة المستشفيات، وكان اسفنديار يلفظ أنفاسه الأخيرة في مدينة حدودية وهو يقول: "ليكن جسدي درعًا لعين إيران".
أليس هذا إعادةَ خلقٍ مهيبة للأسطورة؟ هؤلاء الأبطال، حتى وإن لم يرد ذكر أسمائهم في أي خبر، فقد نُقشوا في سجل التاريخ. لأن الاسم الذي يستقر في دم أمة، لم يعد بحاجة إلى نقوش حجرية.
من يدافع عن إيران بروحه، هو نفسه ملحمةٌ صامتة؛ لا يحتاج إلى شعر، لأنه هو الشعر ذاته.
٣. الشاهنامه: كتاب القوة والحكمة
في عالم اليوم، من ينقطع عن ثقافته فهو بلا جذور، بلا سند، وبلا اسم. لكن الإيراني، قد نشأ مع الشاهنامه. عندما كنا أطفالًا، عرفنا رستم، لا لأن عضلاته كانت ضخمة، بل لأنه لم يكن يهاب، ولم يكن يبيع، ولم يكن يرتجف. كان هوية الإيراني. واليوم، هذه الشاهنامه ذاتها تعلّمنا: الحرب ليست مجرد قوة. يجب أن تُخاض بالحكمة. السياسة والملحمة متداخلتان. إذا كان "تهمتن" (رستم) يملك صولجانًا، فإن "فريدون" كان يملك التدبير. وإذا كان "آرش" يبذل روحه، فإن "كيخسرو" كان يُعمِل فكره. هذا التكامل هو سر بقاء إيران: أمة تعرف متى تشهر سيفها، ومتى تصالح، ومتى تنهض.
اليوم، عندما أتى العدو بالصواريخ، أجبنا بالسيف، وبالصبر، وبالصوت معًا. وهذا "المزيج من القوة والشرف" هو جوهر الشاهنامه. لقد كتب الفردوسي هذا السر قبل ألف عام:
«خرد رهنمای و خرد دلگشای / خرد دست گیرد به هر دو سرای»
(الحكمة هي الدليل وهي التي تشرح الصدور / الحكمة هي التي تأخذ بيدك في الدارين)
واليوم أيضًا، إذا كانت إيران شامخة، فلأنها تحمل في روحها رستم وزال وفريدون وكيخسرو في آن واحد. نحن البلد الوحيد الذي أبطاله أساطير وحقيقيون في نفس الوقت. لدينا آرش، ولدينا حاجي زاده. لدينا رستم، ولدينا سليماني. وهذا التواصل هو بعينه خطاب المقاومة الإيراني؛ خطاب لا يسقط على الأرض، لأنه من الأرض قد نهض.
٤. إيران: عنقاء الملاحم
إيران، بلد العنقاء؛ لقد احترقنا مرارًا، ولكن حتى رمادنا دافئ، فيه حياة، يمنح الروح. في الحرب المفروضة، وفي العقوبات، وفي الفتن، وفي الزلازل والفقر، أرادوا مرارًا أن يرونا مهزومين. لكن دائمًا، من قلب كل كارثة، نهض أحدهم. مثل ذلك الأب الذي فقد ابنته في الهجوم، لكنه أنشد نشيد "يا إيران" في جنازتها. هذا هو صوت أمة لا تعتبر الموت نهاية، بل جزءًا من السردية. إيران تحوّل الموت نفسه إلى أسطورة. وهذا هو سر خلودنا.
اليوم، العدو الذي ظن أنه ببضع انفجارات سيفكك البلاد، هو من تفكك؛ لأن روحنا لا تُقهر. نحن بلدٌ يسمع أطفاله قصة رستم، وينشأ جنوده مع آرش. نحن، بدلًا من الاستسلام، نخلق السرديات. وما أثّر في العالم ليس فقط قدرتنا العسكرية، بل سطوع المعنى في عتمة الظلام المطلق. لقد أظهرت إيران، في اثني عشر يومًا، أنها لا تزال كاتبة الملاحم. ومادام آرش حيًّا في خيال طفل، ويُذكر باقري في زقاق بطهران، ويسير كاوه في شارع بكردستان، فإن إيران باقية. ليس لأنها تملك العتاد، بل لأنها تملك الروح. وتلك الروح، شامخة ويقظة.
٥. وتلك المرأة، هي الوطن نفسه
المرأة في تاريخ هذه الأرض، لم تكن مجرد صانعة للأحداث؛ بل كانت هي المسرح ذاته. حيثما كان لإيران جرحٌ في جسدها، كانت هناك امرأة تضمّده بكمّها.
حينًا وراء ستار، وحينًا في طليعة الجيش؛ حينًا بالمهد، وحينًا بالبندقية؛ حينًا بجسدٍ بلا درع، لكنها دائمًا راسخة وصامدة. الشاهنامه شاهدة؛ فهي مليئة بنساء كان صمتهن تدبيرًا وكلامهن نارًا. من "سيندخت" التي بحكمتها أغلقت الطريق أمام سفك الدماء، إلى "غُردآفريد" التي حملت السيف حارسةً لحدود الشرف. هؤلاء النساء لم يكنّ حضورًا ثانويًا ولا دورًا هامشيًا؛ لقد كنّ دائمًا الأعمدة الرئيسية لهذا الصرح.
والمرأة الإيرانية اليوم هي ذاتها؛ وريثة التهويدات التي أنامت رستم، ويقظة الأمهات التي أيقظت آرش. في الحرب الأخيرة، عندما تشققت السماء وارتجفت المدن تحت قصف الرصاص، كانت المرأة أول من نهض، دون أمر أو تردد. صوت امرأة ودّعت أخاها، وأرسلت زوجها إلى الميدان، ورأت ابنها في التراب، وما زالت واقفة.
وهل الوطن شيءٌ سوى هذا الصمود؟ هل يمكن تصور إيران خارج امرأة تخبز الخبز، وتعتني بالطفل، وتضمد الجرح، وتغسّل شهيدها بدموعها؟ المرأة لم تعد تدافع عن الوطن فحسب. المرأة هي الوطن نفسه. هي التي تصبح الحدود، وتصبح التراب، وتنهض شامخة، ومن بين الأنقاض، تُبنى من جديد.
إذا كان آرش قد نهض اليوم مرة أخرى، وإذا كانت العنقاء تبعث من رمادها، وإذا كان المشط لا يزال يمشط الشعر في خضم صفارات الإنذار والدخان، فبسببها هي؛ تلك المرأة التي تقف بلا ضجيج، بلا ادعاء، بلا أمر، بلا اسم، ولكنها مألوفة.
وحينها، في قلب لحظة تتناثر فيها الكلمات، لا يرتفع سوى صوتٌ واحد، من باطن الأرض، من قلب الزقاق، من شفة ناجية:
«سر که ندارم که طشت بیاری / که سر دهمت، سَر... با توام، ای خانمِ زیبا...»
(لا أملك رأسًا لتأتي بالطست / فأهبك إياه... إني أخاطبكِ أنتِ، أيتها السيدة الجميلة...)
أجل، تلك المرأة هي إيران.
والاسم الآخر لإيران، من الآن فصاعدًا، في أذهاننا،
سيكون: "إيران خانمِ زیبا" (إيران، السيدة الجميلة).
أميد بابليان، خبير في مركز الدراسات السياسية والدولية
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"