يُعد الذوبان السريع لجليد القطب الشمالي ظاهرة ذات تداعيات واسعة تتجاوز البيئة. فخلف هذا الستار الجليدي الآخذ في الذوبان، لا تظهر مياه وأراضٍ جديدة فحسب، بل تُفتح صفحة جديدة للمنافسة الجيوسياسية.
المنطقة التي كانت تعتبر في يوم من الأيام حدودًا نائية ومتجمدة، أصبحت الآن تحديدًا في بؤرة الاهتمام ومسرحًا لمنافسات جديدة. وتؤكد الإحصاءات الرسمية حجم هذا التحول؛ حيث أفاد المركز الوطني لبيانات الثلوج والجليد في الولايات المتحدة أنه منذ عام 1979، فقدت منطقة القطب الشمالي حوالي 40 في المائة من غطائها الجليدي الدائم، وانخفضت مساحة الجليد الصيفي فيها بأكثر من 13 في المائة كل عقد.
هذا الوضع ليس مجرد قضية بيئية؛ بل هو تحول جيوسياسي كبير جعل القطب الشمالي مركزًا لمنافسة متزايدة. من الموارد غير المستغلة الموجودة في المنطقة إلى طرق الشحن الاستراتيجية التي تفتح مع ذوبان الجليد، تحمل هذه التغييرات فرصًا وتوترات جديدة لديها القدرة على تشكيل العلاقات الدولية لعقود قادمة.
اللعبة الكبرى الجديدة في الشمال
يرى جون ميرشايمر، أحد أبرز منظري العلاقات الدولية، من منظور الواقعية الهجومية، أن ذوبان الجليد يؤدي إلى خلق منطقة جديدة تعاني من فراغ في السلطة، مما يؤدي إلى سعي القوى الكبرى وتنافسها في النظام الدولي الفوضوي لملء هذا الفراغ.
تتقدم روسيا في هذا المجال، وتجذب الانتباه من خلال استعراض قوتها في القطب الشمالي. أعادت البلاد فتح القواعد السوفيتية القديمة، وتجري مناورات عسكرية ضخمة، وستضم أسطولًا من 50 كاسحة جليد بحلول عام 2030. هذا يعني قوة بحرية قطبية مصممة للسيطرة على الشمال.
الصين، على الرغم من عدم امتلاكها سواحل قطبية، تصف نفسها بأنها دولة "قريبة من القطب الشمالي" واستثمرت مليارات الدولارات في "طريق الحرير القطبي" وأنشأت شبكة من الموانئ وقواعد البحث لزيادة نفوذها.
الولايات المتحدة، على الرغم من دخولها هذه المنافسة لاحقًا، إلا أنها تسارع في التعويض. في عام 2022، قدم البنتاغون استراتيجيته الجديدة للقطب الشمالي وأعلن عن المعادن الأرضية النادرة في المنطقة، الضرورية لإنتاج السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح، كأولوية للأمن القومي. هذا ليس عرضًا دبلوماسيًا؛ بل هو سباق على السلطة في منطقة يعتقد ميرشايمر أنه بدأ لحظة بدء ذوبان الجليد.
الخلفية التاريخية: النظرة الاستراتيجية التقليدية للقطب الشمالي في زمن الحرب الباردة
منذ الحرب الباردة، كانت ألاسكا دائمًا تتمتع بموقع استراتيجي مهم للولايات المتحدة واستضافت قواعد رئيسية للقوات الجوية الأمريكية، بما في ذلك قاعدة إيلسون. ترجع أهمية هذه الولاية بشكل خاص إلى قربها من موسكو عبر المسار القطبي. في تلك الحقبة (الحرب الباردة)، شهدنا نشر شبكات رادار مثل خط ديو (DEW Line) في هذه المنطقة للكشف عن التهديدات السوفيتية، كما كانت مسألة إخفاء الغواصات النووية في مياه القطب الشمالي من القضايا التي تحظى باهتمام عسكري في ذلك الوقت.
الآن، مع تغير المناخ والدخول في حقبة قطب شمال أكثر دفئًا، من المتوقع أن تتضاعف الأهمية الاستراتيجية لألاسكا.
توسع الناتو شمالًا: تغيير الترتيب الأمني في أرض أكثر دفئًا
الآثار الأمنية الناجمة عن ذوبان جليد القطب الشمالي، وخاصة في منطقة شمال أوروبا، واضحة للعيان. من أبرز مظاهر هذا التحول قرار فنلندا والسويد بالانضمام إلى حلف الناتو. فاجأت هاتان الدولتان، اللتان حافظتا على الحياد العسكري لعقود، العالم بهذا الإجراء في عام 2023. على الرغم من أن هذا القرار تأثر بشكل مباشر بالحرب الروسية الأوكرانية، إلا أنه لا شك تسارع وتفاقم نتيجة لتغير الوضع الأمني في القطب الشمالي.
بالنسبة لفنلندا، التي تملك حدودًا مشتركة مع روسيا بطول 1340 كيلومترًا، يُعد هذا التغير في الوضع حيويًا للغاية. مع زيادة إمكانية الوصول إلى القطب الشمالي، لم تعد هذه الحدود بمثابة درع أمان، بل تحولت إلى نقطة ضعف محتملة. كما أشار قادة السويد علنًا إلى تغير الوضع الأمني في القطب الشمالي كعامل رئيسي في قرارهم بالانضمام إلى الناتو.
نتيجة هذه التطورات هي توسيع الوجود العسكري لحلف الناتو من شمال النرويج إلى بحر البلطيق وإنشاء سد جديد أمام الإجراءات الروسية المحتملة. وكانت استجابة موسكو لهذا الوضع عبارة عن سلسلة من الإجراءات: زيادة القوات والمعدات في شبه جزيرة كولا، وتصعيد الخطاب حول حصار الناتو، وخلق دورة من سباق التسلح.
في النهاية، هذه الدورة الجديدة من المنافسة والتوتر في شمال أوروبا تعود جذورها إلى التطورات المناخية والعواقب الجيوسياسية لذوبان جليد القطب الشمالي.
الممرات البحرية: ممرات مائية جديدة، قوى جديدة
ذوبان الجليد في القطب الشمالي لا يقتصر على اليابسة؛ بل يغير بشكل جذري شكل واستخدام البحار أيضًا. الممرات مثل طريق بحر الشمال على طول السواحل الروسية والممر الشمالي الغربي عبر جزر القطب الشمالي الكندية، سيكون لهما دور تحويلي في النقل البحري المستقبلي.
لإدراك هذه الأهمية، فكر في سفينة تبحر من شنغهاي إلى روتردام؛ باستخدام طريق بحر الشمال، يمكنها قطع مسافة أقصر بنسبة 40% مقارنة بقناة السويس. هذا الاختلاف الكبير في المسافة يعني توفير مليارات الدولارات في تكاليف الوقود والوقت.
لكن فتح هذه الممرات الجديدة لا يخلو من التحديات الجيوسياسية. هناك خلافات كبيرة حول سيادة هذه الممرات المائية: تدعي روسيا أن طريق بحر الشمال يخضع لسيادتها وتتحكم في عبوره وتكاليفه، بينما تعتبره الولايات المتحدة ممرًا مائيًا دوليًا. كما تُلاحظ توترات مماثلة بين كندا والولايات المتحدة حول الوضع القانوني للممر الشمالي الغربي.
في حين تتوقع نماذج المناخ أن يصبح الصيف الخالي من الجليد في القطب الشمالي أمرًا عاديًا في غضون عقود قليلة، فإن هذه الخلافات لديها القدرة على التصعيد السريع. يمكن أن يشمل هذا التصعيد مواجهات عسكرية مباشرة، وهو وضع مشابه لما نشهده حاليًا في بحر الصين الجنوبي.
التهافت على ثروات القطب الشمالي
تشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أن القطب الشمالي قد يحتوي على ما يصل إلى 30% من احتياطيات الغاز الطبيعي غير المكتشفة و 13% من احتياطيات النفط غير المكتشفة في العالم. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي المنطقة على احتياطيات كبيرة من المعادن مثل الزنك والنيكل والعناصر الأرضية النادرة.
يقدم هذا الوضع مفارقة متناقضة: فمن ناحية، يسهل تغير المناخ الوصول إلى الوقود الأحفوري واستخراجه؛ ومن ناحية أخرى، يزيد الضغط العالمي لخفض انبعاثات الكربون والانتقال إلى الطاقة النظيفة.
مع ذلك، فإن الفرص الاقتصادية الهائلة التي توفرها هذه الموارد غالبًا ما تجعل الاعتبارات البيئية تتراجع إلى الهامش في الحسابات الاستراتيجية للحكومات.
جرينلاند: أرض استراتيجية في عالم أكثر دفئًا
في خضم التطورات القطبية، أصبحت جرينلاند سريعًا لاعبًا رئيسيًا. من أمثلة هذا الاهتمام المتزايد اقتراح دونالد ترامب في عام 2019 بشراء هذه الجزيرة من الدنمارك؛ وهي فكرة قد تبدو غير عادية للوهلة الأولى. لكن مواقفه (وربما نهجه الأكثر جدية في الفترة الرئاسية القادمة) لها جذور في النظرة الاستراتيجية الأمريكية لجرينلاند.
ذلك لأن جليد جرينلاند يذوب ويكشف عن احتياطيات هائلة من المعادن النادرة؛ وهي مواد ضرورية للتقنيات المتقدمة والطاقات المتجددة. كما أدركت الصين هذه الفرصة وتنشط في الاستثمار في المناجم والبنية التحتية في هذه المنطقة.
لكن التطورات لا تقتصر على تنافس القوى الكبرى. فسكان جرينلاند الأصليون لم يقفوا مكتوفي الأيدي؛ إنهم يسعون إلى الاستقلال عن الدنمارك لتولي إدارة واستغلال مواردهم الطبيعية بأنفسهم.
مع التراجع المتزايد للجليد، تتمتع هذه الجزيرة الشاسعة (أكبر من المكسيك) بإمكانية التحول إلى نقطة محورية وحاسمة في الترتيب الجيوسياسي للقطب الشمالي.
تحدٍ جديد للقانون الدولي
نظرًا للتطورات الأخيرة وتزايد الأهمية الاستراتيجية والحساسية البيئية للقطب الشمالي، تزداد الحاجة إلى نظام قانوني دولي شامل لإدارة هذه المنطقة أكثر من أي وقت مضى.
حاليًا، على الرغم من أن القوانين الوطنية للدول الساحلية المطلة على القطب الشمالي وبعض المعاهدات الدولية (مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار - UNCLOS) تحكم المنطقة إلى حد ما، إلا أن هذه الأطر القائمة غير كافية لمواجهة التحديات الفريدة للمنطقة بفعالية. تشمل هذه التحديات فتح طرق شحن جديدة، واستخراج موارد واسعة النطاق، وقضايا بيئية معقدة.
يمكن لنظام قانوني واضح وفعال أن يلعب دورًا حيويًا في منع نشوء النزاعات الإقليمية، وتدمير البيئة، وتجاهل حقوق الشعوب الأصلية. يمكن لمثل هذا النظام أيضًا توفير قواعد واضحة للإدارة المستدامة للموارد، وحماية الطبيعة، وحقوق الملاحة في هذه المنطقة.
بدون إنشاء مثل هذا الإطار الشامل، يزداد خطر تحول هذه المنطقة البكر والحيوية إلى بؤرة للصراعات الدولية بشكل كبير.
خلاصة: مستقبل الحوكمة في القطب الشمالي
القطب الشمالي يتغير، وهذا التحول هو بداية سباق جديد على السلطة في هذه المنطقة.
إن مستقبل هذه المنطقة الحساس يتوقف على مفترق طرق حاسم:
هل ستتمكن الدول المعنية من إدارة التوترات من خلال التوصل إلى اتفاقيات فعالة؟ أم أن الذوبان المتزايد للجليد، كما يُخشى، سيطلق سيلًا من النزاعات على مسرح النظام الدولي؟
إلهه سادات موسوي نجاد، خبيرة في مركز الدراسات السياسية والدولية.
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"