يشهد المشهد الدولي حاليًا ظروفًا استثنائية وغير مسبوقة. فقد خلقت مقاربة دونالد ترامب غير القابلة للتنبؤ جوًا عالميًا مليئًا بالتناقضات والتضادات؛ وضع لا يختلف عن تعقيدات العصر الرقمي.
ربما تكون هذه الحالة المضطربة قد وفرت ظروفًا مواتية للقوى الإقليمية، مثل إيران، لتجاوز التحديات الضارة من خلال اغتنام الفرص المتاحة.
في مثل هذه الأجواء، نشهد نشاطًا متزايدًا من قبل الدول ورؤساء الحكومات. غالبًا ما يتم هذا النشاط باستخدام أساليب دبلوماسية غير تقليدية، مثل الدبلوماسية الهاتفية بين القادة، والوساطة النشطة وغيرها، وبأهداف غير تقليدية في بعض الأحيان.
يتركز هذا النشاط بشكل أساسي على عدة قضايا مهمة: الأزمة الفلسطينية، الصراع في أوكرانيا، التطورات في غرب آسيا، والمحورين الأوروبي الأطلسي والأوراسي. في غضون ذلك، تلعب دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر دورًا بارزًا في هذا النشاط.
لقد كانت العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022 الخيار الأمثل لدفع أوروبا إلى أحضان أمريكا من منظور دفاعي وأمني، وأنقذت الناتو من الموت الدماغي، وفي الوقت الحالي، تعزز إرادة قادة البيت الأبيض والكرملين التنبؤ بعودة أوروبا إلى فكرة الاستقلال الأمني والدفاعي الذاتي، ويسعى مثلث لندن وبرلين وباريس أكثر من أي وقت مضى، بالاعتماد على الظروف الجديدة والرأي العام في القارة الخضراء، لإيجاد حل لجيش أوروبي قوي بتكلفة لا تقل عن 800 مليار يورو، ويجب القول إن تقديم تقييم في هذا الصدد يعود قبل كل شيء إلى كيفية انتهاء الأزمة الأوكرانية وعودة روسيا إلى مرحلة إنعاش العلاقات وإعادة بنائها مع الغرب وأوروبا. بالطبع، بدأت حاليًا جهود من الجانبين لإنهاء الصراع بالمفاوضات والحوار، ولكن نجاحها مشروط بظهور إرادة لدى القادة السياسيين للطرفين وتقليص المطالب القصوى للسيدين بوتين وزيلينسكي.
بينما تستعد فرنسا للاجتماع الثاني لقمة رؤساء الدول المتطوعين من أجل الأمن والسلام في أوكرانيا؛ تتواصل المفاوضات في الرياض من أجل وقف إطلاق النار في أوكرانيا. في هذه الظروف، وبناءً على استطلاع يوروباروميتر الذي أجراه البرلمان الأوروبي في شتاء 2025، يرغب 66% من المواطنين الأوروبيين في أن يلعب الاتحاد الأوروبي دورًا أكبر في حمايتهم من الأزمات العالمية والمخاطر الأمنية. هذه النظرة قوية بين الشباب. ومع ذلك، على المستوى الوطني، يختلف الدعم لدور أقوى للاتحاد الأوروبي في قطاع الدفاع من أعلى نسبة، 87% في السويد، إلى أدنى نسبتين، 47% في رومانيا و 44% في بولندا.
في الجانب الهيكلي أيضًا، يرغب 62% من مواطني الاتحاد الأوروبي في أن يلعب البرلمان الأوروبي دورًا أكثر أهمية وأن تكون الدفاع والأمن (36%) والمنافسة (32%) أولويات سياسية رئيسية على مستوى الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه، يعتقد تسعة من كل عشرة (89%) من مواطني الاتحاد الأوروبي أنه يجب على الدول الأعضاء العمل بشكل أكثر اتحادًا لمواجهة التحديات العالمية الحالية. يشير هذا الاستطلاع إلى أن 89% من المواطنين الأوروبيين المشاركين يعتقدون أنه يجب على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تكون أكثر اتحادًا لمواجهة التحديات العالمية الحالية. في سياق نشر نتائج استطلاع يوروباروميتر لشتاء 2025، قالت روبرتا ميتسولا إن ثلثي الأوروبيين يرغبون في أن يلعب الاتحاد الأوروبي دورًا أقوى في ضمان حمايتهم. يعتقد رئيس البرلمان الأوروبي أن هذه دعوة واضحة للعمل وسنستجيب لها. يجب أن تكون أوروبا أقوى ليشعر مواطنونا بالأمان.
حاليًا، يبلغ مستوى القلق من روسيا في القارة الخضراء أعلى مستوياته الممكنة، وخاصة في البلدان المتوسطة والصغيرة، وبالأخص تلك الأقرب إلى المحور الشرقي. تتغير توقعات مواطني الاتحاد الأوروبي في بيئة جيوسياسية سريعة التغير. حيث تُعد الدفاع والأمن (36%)، بالإضافة إلى المنافسة والاقتصاد والصناعة (32%)، من الأولويات التي يجب على الاتحاد الأوروبي التركيز عليها بشكل أكبر لتعزيز موقعه في العالم. بعد هذين القطاعين؛ يأتي استقلال الطاقة (27%)، الأمن الغذائي والزراعة (25%)، والتعليم والبحث (23%)؛ وهو ما يؤكد أن القضايا الاقتصادية والأمنية تتصدر الموضوعات التي يرغب المواطنون في أن يتعامل معها البرلمان الأوروبي كأولوية. كما أعلن 43% عن التضخم وارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة كأولوية لهم، ويلي ذلك دفاع وأمن الاتحاد الأوروبي (31%)، مكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي (31%)، ودعم الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة (29%).
أصبحت فكرة الاستقلال الدفاعي الأوروبي موضوعًا مثيرًا للجدل داخل الاتحاد الأوروبي منذ بداية الألفية الثالثة، ويرجع ذلك أساسًا إلى ضعف الهياكل القائمة وتعقيد أدوارها، بالإضافة إلى الالتزام الأمريكي في القارة العجوز، مما أدى إلى إجماع حول إرادة "أوروبا" الدفاع، وفي الواقع أخفى ذلك تناقضات وخلافات عديدة فيما يتعلق بالجوانب الاستراتيجية والعسكرية والمؤسسية لهذا الأمن. كما أن عدم التنسيق وغياب خريطة طريق استراتيجية للدول الأعضاء بشأن أهداف وطرائق الدفاع الأوروبي لفترة طويلة أدى إلى عدم فعالية المؤسسات التي أُنشئت لهذا الغرض إلى حد كبير؛ وبالتالي، لا يزال الدفاع الأوروبي اليوم يعتمد بشكل أساسي على وجود القوات الأمريكية والأسلحة النووية ذات الأثر الردعي في هذه القارة منذ الخمسينيات. ولكن مع مقاربة ترامب وإجراءاته غير التقليدية على الساحة الدولية في الأشهر الثلاثة الأولى له في البيت الأبيض، وخاصة قربه المفرط من الرئيس الروسي، أصبح هذا الوضع المتمثل في تولي أمريكا مسؤولية الدفاع عن أوروبا يبدو غير مقبول للعديد من القادة الأوروبيين، وخاصة حكومتي فرنسا وألمانيا، لأسباب سياسية واستراتيجية واقتصادية؛ وهو ما أدى إلى ظهور خلافات داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بين من يفضلون دفاعًا أوروبيًا بحتًا أو حتى عمودًا أوروبيًا لحلف شمال الأطلسي، وبين آخرين يرغبون في البقاء تحت الحماية الكاملة لحلف الناتو.
علي بمان إقبالي زارج، رئيس مجموعة دراسات أوراسيا
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"