ديب سيك: رد الصين على استفراد أمريكا

بعد مرور أكثر من شهر على بداية ولاية الرئيس ترامب، يشهد العالم زلزالًا سياسيًا في مناطق مختلفة من غرب وشرق آسيا وأوروبا إلى شمال ووسط وجنوب القارة الأمريكية. لقد سعى ترامب، الذي لم يعد مقيدًا بقيود واعتبارات ولايته الأولى في فترة رئاسته الثانية، من خلال طرح آراء ومقترحات مدهشة وغير مقبولة، بل واستعمارية في بعض الأحيان، فيما يتعلق بالدول المجاورة والحلفاء، وكذلك المنافسين والأعداء الاستراتيجيين، إلى إرسال رسالة حاسمة إلى العالم مفادها: أن أمريكا ستعود في عهده إلى مكانتها كقوة عظمى سابقة، وأن الدول التي لا تقبل هذه الحقيقة ستعاقب.
27 رجب 1446
رویت 66
أعظم ملایي

بعد مرور أكثر من شهر على بداية ولاية الرئيس ترامب، يشهد العالم زلزالًا سياسيًا في مناطق مختلفة من غرب وشرق آسيا وأوروبا إلى شمال ووسط وجنوب القارة الأمريكية. لقد سعى ترامب، الذي لم يعد مقيدًا بقيود واعتبارات ولايته الأولى في فترة رئاسته الثانية، من خلال طرح آراء ومقترحات مدهشة وغير مقبولة، بل واستعمارية في بعض الأحيان، فيما يتعلق بالدول المجاورة والحلفاء، وكذلك المنافسين والأعداء الاستراتيجيين، إلى إرسال رسالة حاسمة إلى العالم مفادها: أن أمريكا ستعود في عهده إلى مكانتها كقوة عظمى سابقة، وأن الدول التي لا تقبل هذه الحقيقة ستعاقب.

هذا النهج الاستبدادي الذي يشير إليه دونالد ترامب وكبار مستشاريه بأوصاف مثل "العودة إلى السلام من خلال القوة" أو "أمريكا أولاً"، على الرغم من أنه يشمل دولًا مثل كندا والمكسيك وبنما والشركاء عبر الأطلسي لأمريكا وأوكرانيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا أن هدفه الرئيسي هو لاعب واحد محدد: جمهورية الصين الشعبية. إنها الدولة الوحيدة التي يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون أنها تمتلك القدرات اللازمة للمنافسة العالمية مع الولايات المتحدة، ويمكن أن تصبح قريبًا عقبة جدية أمام تفوق أمريكا بلا منازع في النظام الدولي.

عادةً ما تحدد وثيقة الأمن القومي الأمريكي، التي تعتبر من أهم وثائق نظام الحكم في هذا البلد وتصدرها كل أربع سنوات عن البيت الأبيض، الإطار العام للنهج العالمي لحكومة هذا البلد. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب لم تصدر بعد وثيقة أمن قومي جديدة لفترة رئاسته الثانية، إلا أن مواقفه وسياساته المعلنة وإجراءاته العملية تشير إلى أن رؤيته العامة للسياسة الخارجية لم تتغير كثيرًا. ففي وثيقة استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب الأولى (2017)، تم تعريف روسيا والصين بأنهما قوتان "تراجعيتان" تشكلان تهديدًا للتفوق الاقتصادي والنفوذ والنظام القيمي الأمريكي على الساحة العالمية.

ومن بين‌هاتين القوتين العالميتين، تثير الصين قلقًا أكبر لدى الحكومة الأمريكية بسبب تقدمها المذهل في المجال الاقتصادي؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن طول أمد الحرب في أوكرانيا قد أضعف تلقائيًا المنافس الآخر والتهديد للأمن القومي الأمريكي، أي روسيا، على الأقل على المدى القصير، وألحق أضرارًا جسيمة باقتصادها ونفوذها ومكانتها العالمية.

في وثيقة استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، حدد ترامب أربع "ركائز" لسياسته الخارجية: "حماية الشعب الأمريكي والوطن وأسلوب الحياة الأمريكي"، و"تعزيز الرخاء الأمريكي"، و"الحفاظ على السلام من خلال القوة"، و"تعزيز النفوذ الأمريكي". ولا تزال هذه المبادئ الأربعة بمثابة خارطة طريق لإدارة ترامب في الفترة الحالية. وبناءً على ذلك، يبدو أن إدارته تسعى، من خلال إجراءات مثل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين وفرض تعريفات جمركية على السلع المستوردة من دول مثل كندا والمكسيك والصين، إلى حماية اقتصاد الشعب الأمريكي ووظائفه وزيادة الرخاء في هذا البلد. كما أن محاولة إنهاء حربي غزة وأوكرانيا، وإن كانت من خلال طرح مقترحات يعتبرها البعض غير معتادة وتدخلية للأطراف الفلسطينية والأوكرانية، يمكن تقييمها في إطار مبدأ "الحفاظ على السلام من خلال القوة". وأخيرًا، لا يزال هدف "تعزيز النفوذ الأمريكي" قائمًا، والعائق الأهم أمامه حاليًا هو الصين؛ الدولة التي، على عكس روسيا وكوريا الشمالية وإيران، لا تعاني من أزمات إقليمية خطيرة ومشاكل اقتصادية، ولديها برامج طموحة وعملية وواقعية للعب دور قيادي على المستوى العالمي.

لذلك، فإن سعي إدارة ترامب لاحتواء الصين واضح. لكن ما تسعى هذه المقالة إلى التأكيد عليه هو رد الصين على هذا النهج. تشير الإجراءات الصينية الأخيرة في الأشهر الماضية إلى أن قادة هذا البلد لم يفاجأوا بإعادة انتخاب ترامب وسياساته المعادية للصين، وأنهم وضعوا خططًا متماسكة للرد وحتى الاستفادة من هذا الوضع لصالحهم. في الخطوة الأولى، يبدو أن بكين قد استخلصت دروسًا مهمة من فترة رئاسة دونالد ترامب الأولى وحاولت إصلاح نقاط ضعفها وسياساتها الضارة. على سبيل المثال، أظهر الرئيس الصيني شي جين بينغ في الفترة الماضية ردود فعل فورية على إجراءات ترامب، لكنه اتخذ هذه المرة، بعد إدراكه عدم جدوى هذا النهج، استراتيجية جديدة وركز على إعداد الصين لمواجهة التهديدات وإظهار العديد من الأوراق الرابحة لمفاجأة إدارة ترامب. بعبارة أخرى، تعرف السلطات الصينية الآن حيل ترامب وتوصلت إلى قناعة بأنها تستطيع التأثير على إدارته.

في الخطوة التالية، اتجهت الحكومة الصينية، لمواجهة ترامب، إلى ساحات تنافسية ذات توتر أقل ولكن بعائد مرتفع ومصدر فخر للشعب الصيني. وفي هذا السياق، تتمثل إحدى السياسات الجادة للصين في تطوير التكنولوجيا والابتكار في المجالات الحيوية مثل المركبات الكهربائية والطاقة الشمسية والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. والهدف من هذه السياسة هو توسيع نفوذ الصين وحضورها على الساحة العالمية، ويعتبر مشروع الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" رمزًا بارزًا لهذا النهج.

تم إطلاق الذكاء الاصطناعي "ديب سيك"، وهو روبوت دردشة صيني مدعوم ماليًا من شركة "هاي فلاير"، في يوم تنصيب دونالد ترامب بالضبط، أي في 20 يناير 2025، لإرسال رسالة قوية ومن موقع قوة إلى الرئيس الأمريكي الجديد. قبل الكشف عن روبوت الدردشة الصيني هذا، كانت الولايات المتحدة تُعرف بأنها القوة العظمى في العالم في إنتاج روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، ولم يكن لدى روبوت "تشات جي بي تي" التابع لشركة "أوبن إيه آي" منافس جدي على الساحة العالمية. لكن إطلاق الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" تحدى تفرد أمريكا في مجال روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي.

وقد سلك روبوت الدردشة "ديب سيك" الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، نفس المسار الذي سلكته المنتجات الصينية الأخرى التي تم تصديرها إلى مختلف البلدان بكميات إنتاج كبيرة وأسعار منخفضة، والتي غزت الأسواق العالمية تدريجيًا. ويعود هذا النجاح إلى حد كبير إلى خصائصه المميزة؛ فقد تم إنتاج الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" بتكلفة أقل بكثير (6 ملايين دولار فقط) مقارنة بالذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي"، وذلك لحاجته إلى عدد أقل من الشرائح. بعبارة أخرى، في حين أن نماذج الذكاء الاصطناعي الغربية الشهيرة تحتاج إلى حوالي 16 ألف شريحة متخصصة، فقد تم تدريب الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" باستخدام 2000 شريحة متطورة فقط وآلاف الشرائح ذات المستوى الأدنى. وقد أدى هذا إلى إنتاج هذا المنتج بتكلفة أقل بكثير وأرخص من منافسيه الغربيين.

من ناحية أخرى، تمكنت الصين من خفض تكاليف الأجهزة من خلال تصنيع شرائح محلية. وقد قلل هذا الأمر من اعتماد الصين على التقنيات الغربية وجعل تطوير الذكاء الاصطناعي في هذا البلد أكثر استقلالية. ونتيجة لذلك، وعلى عكس الشركات الغربية التي تعتمد على توفير قطع غيار وبنية تحتية باهظة الثمن، فإن الصين قادرة على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي بميزانية أقل بكثير، وهذا الأمر يمكن أن يتحدى بمرور الوقت تسعير واحتكار شركات التكنولوجيا الغربية ويهدد هيمنة أمريكا على الذكاء الاصطناعي العالمي.

يتميز الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" عن روبوتات الدردشة الأخرى، بما في ذلك "تشات جي بي تي"، من جوانب أخرى أيضًا؛ فهذا الروبوت يشرح عملية استدلاله قبل تقديم الإجابة على طلب المستخدم، مما يؤدي إلى مزيد من الشفافية في الإجابات وزيادة ثقة المستخدمين، وهو في الواقع يعالج إحدى نقاط الضعف الأساسية في روبوتات الدردشة الذكية الأخرى. ونتيجة لهذه الميزة، تصدر تطبيق "ديب سيك" للهاتف المحمول قائمة التطبيقات الأكثر شعبية على هواتف آيفون في الولايات المتحدة بعد إطلاقه، ووفقًا للإحصائيات، تم تنزيله 1.6 مليون مرة حتى تاريخ 25 يناير 2025. كما حصل هذا التطبيق على المرتبة الأولى في متاجر تطبيقات آيفون في دول مثل أستراليا وكندا والصين وسنغافورة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

بالطبع، هذه ليست سوى بداية المنافسة الصينية في هذا المجال. فقد تمتعت الصين في السنوات الأخيرة بنظام بيئي تكنولوجي ذكي وديناميكي يتمتع فيه مختلف قطاعاته بتآزر كبير مع بعضها البعض. وعلى هذا الأساس، ومع زيادة عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" إلى أكثر من 20 مليون مستخدم نشط يوميًا في أقل من شهرين، فإن شركات صناعة السيارات الصينية تتبناه وتستفيد منه بسرعة، وتعتزم أن تكون رائدة في هذه الصناعة من خلال دمج هذا الذكاء الاصطناعي في إنتاج السيارات الجديدة والذكية. لذلك، سنشهد في المستقبل القريب تحسنًا في جودة السيارات والمنتجات الصينية الأخرى وزيادة إقبال المستهلكين العالميين عليها. بعبارة أخرى، يعزز هذا الابتكار التكنولوجي بشكل متزايد قوة الصين الاقتصادية والجيوسياسية، وبالتالي سيغير السياسة العالمية بشكل متزايد.

وعلى عكس سباق التسلح النووي الذي كانت له نهاية محددة، فإن المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي تفتقر إلى نقطة نهاية معينة؛ بل هي معركة مستمرة لتحديد المعايير وتوجيه الابتكارات الرئيسية وتشكيل قوانين المستقبل. ومن هنا، فإن المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي ليست مجرد إنتاج منتج معين؛ بل هي منافسة لتحديد أفضل المعايير وتوجيه الابتكار والتأثير على النظام العالمي المستقبلي. وفي هذا السياق، تسعى الصين إلى أن تصبح دولة حاسمة ورائدة في هذا المجال دون الدخول في صراع مباشر مع الولايات المتحدة.

وبناءً على ذلك، يبدو أن المسؤولين الصينيين يؤمنون برأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قال لطلاب بلاده في سبتمبر 2017: "أي دولة تستطيع أن تتولى قيادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ستتولى حكم العالم"، إيمانًا أقوى منه نفسه. ونتيجة لذلك، فإنهم يسعون جاهدين لتقديم رد ذكي على تهديدات وضغوط ترامب. لم ينخرط الصينيون في أعمال عسكرية أو حتى اقتصادية مكلفة، ولا في خطابات لا أساس لها وشعارات جوفاء وألعاب سياسية غير مثمرة. لقد اختاروا ساحة للمنافسة ومواجهة استفراد ترامب لا يستطيع قادة الدول الأخرى، حتى لو أرادوا ذلك، إدانتها أو توبيخها، ولا يستطيع الرأي العام العالمي أن يتخذ موقفًا سوى الإعجاب بها. وقد توصل المسؤولون الصينيون إلى قناعة بأنه إذا كانت أمريكا تسعى إلى مزيد من الرخاء والتنمية لشعبها والنفوذ في العالم، فعليهم أن يسلكوا نفس المسار، ويكمن نجاح هذا النهج في الرد على "التنمية بالتنمية" و"التكنولوجيا بالتكنولوجيا" و"النفوذ بالنفوذ".

أعظم ملایي؛ باحثة في العلاقات الدولية

 "إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است