بناءً على الإستراتيجية المعلنة لـ "وارسو"؛ فإن أزمة أوكرانيا حاليًا هي أخطر تهديد لأمن بولندا، وليس من المستغرب أن يعتبر القادة السياسيون في "وارسو" روسيا علنًا التهديد الرئيسي لأمنهم. بالطبع، كانت "وارسو" واحدة من أوائل العواصم الأوروبية التي أدانت رسميًا الغزو العسكري الروسي عام 2014 لأوكرانيا الدولة المجاورة، ومما لا شك فيه أن هذا الموضوع قد اكتسب أهمية مضاعفة مع أزمة أوكرانيا وتحول "وارسو" إلى أهم داعم وجسر اتصال غربي في مساعدة "كييف".
توفر وثيقة "إستراتيجية الأمن القومي" في بولندا رؤية واضحة حول كيفية استخدام بولندا لمواردها لضمان الدفاع عن مواطنيها ودولتها وأمنهم ورفاههم ككل، كما ترسم خريطة طريق حول كيفية اندماج الدولة في المنظمات الدولية كدولة عضو في الناتو والاتحاد الأوروبي، أو تطوير العلاقات الثنائية مع الدول الأخرى، والتعاون الإقليمي والعالمي.
أيضًا، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وتشكيل المفوضية الأوروبية الجديدة، واستمرار الحرب في أوكرانيا، سيكون الأمن بجميع أبعاده أولوية لبولندا التي ستتولى رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي في 1 يناير 2025. تقول "أجنيسكا بارتول"، سفيرة بولندا لدى الاتحاد الأوروبي: "ستكون الطاقة والدفاع والأمن الاقتصادي على رأس جدول أعمال الاتحاد الأوروبي خلال فترة الرئاسة الدورية المقبلة للمجلس لمدة ستة أشهر"، وهو ما يبدو أنه جدول أعمال طموح لتحقيق الاستقرار في فترة التغييرات والتحديات الكبيرة (مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية، وتشكيل المفوضية الأوروبية الجديدة، والحرب في أوكرانيا).
والحقيقة هي أن أهم ما يشغل بال الأوروبيين اليوم هو الأمن بجميع أبعاده الممكنة، سواء كان ذلك خارجيًا أو داخليًا، وفي المرحلة التالية تأتي قضايا مثل المنافسة وجودة الغذاء والأدوية الأساسية وأسعار الطاقة المعقولة والهجرة. كما أن تعزيز الصناعة الدفاعية للاتحاد الأوروبي يمثل أولوية مهمة، ويتعين على بروكسل توفير 500 مليار يورو إضافية للدفاع في العقد المقبل حتى لا تتخلف عن منافسين مثل الولايات المتحدة والصين.
وبالطبع، بلغت النفقات الدفاعية لأوروبا في عام 2023 رقمًا قياسيًا قدره 279 مليار يورو، لكن التقديرات تشير إلى أنه بعد سنوات من نقص الاستثمار، هناك حاجة إلى المزيد من المال لتغطية الثغرات المالية والاستثمار في مشاريع جديدة مثل الدرع الدفاعي الجوي الأوروبي.
من ناحية أخرى، بدأت بولندا في عام 2020 عملية مدتها 15 عامًا لإنشاء قدرة دفاعية وردعية وطنية، وهذه في الواقع عملية واقعية في أفق زمني تقدر فيه "وارسو" أن الدول المعادية ستواصل الترويج لسياسات عدوانية ومراجعة، وستواصل تجهيز القوات بأسلحة هجومية جديدة وبسرعة كبيرة. على أي حال، فإن المخاطر الناجمة عن الصراعات الداخلية والإقليمية المستمرة في جنوب أوروبا المجاورة وضغط الهجرة غير الشرعية لا تزال تشكل تحديًا لأمن أوروبا.
كما أن هناك ظاهرة عالمية مهمة تتمثل في زيادة المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، والتي تؤثر على نظام العلاقات الدولية بأكمله، ومن ناحية أخرى، تسعى بولندا من خلال تطوير شراكة إستراتيجية مع أمريكا ودول حليفة أخرى إلى تعزيز الأركان الخارجية لأمنها، وتسعى إلى التعاون مع واشنطن في المجالات الأمنية والدفاعية، بما في ذلك ضمان الوجود الدائم للقوات الأمريكية على الأراضي البولندية، وكذلك في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار والبحث والتطوير. وفي الوقت نفسه، تعطى الأولوية لزيادة تخصيص ميزانية الدفاع بحيث يجب أن تصل إلى مستوى 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025.
بالإضافة إلى ذلك، شجع فوز دونالد ترامب التيارات الشعبوية الحاكمة في القارة العجوز، مما وضع الكيانات السياسية الأوروبية في موقف غير مؤكد. يمكن للاتحاد الأوروبي الاستفادة من الحفاظ على علاقات تجارية واسعة مع الصين، بما في ذلك رفض إزالة بعض المناطق الإستراتيجية التي يطلبها الأمريكيون، لكن هذا نهج محفوف بالمخاطر للغاية بالنسبة لاتحاد يعاني من انكماش اقتصادي حاد.
الأهم من ذلك، أن الناتج المحلي الإجمالي غير الكافي، والانخفاض التكنولوجي لشركات الاتحاد الأوروبي، واضحان تمامًا تقريبًا في المشهد العالمي في المجالات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والفضاء، وانخفاض نفوذه الدبلوماسي، وقد تخلف هذا الاتحاد حتى عن دول مثل الهند، وعلى الرغم من بعض الطموحات المتعلقة بالحكم الذاتي الاستراتيجي التي عبر عنها ماكرون على وجه الخصوص، فإن الاتحاد الأوروبي لا يؤخذ على محمل الجد على المستوى العالمي، ومع وصول دونالد ترامب، ستشتد هذه الظاهرة.
تعتبر العلاقات مع الشرق الأوسط، وخاصة جمهورية إيران الإسلامية، موضوعًا مهمًا لبولندا، بهدف توفير الطاقة وضمان أمنها من خلال تطوير البنية التحتية والاستفادة من مشاريع الاتحاد الأوروبي، وكذلك من خلال إزالة الاحتكار الروسي لتوريد الغاز والنفط في أوروبا الوسطى والبلقان. في الوقت نفسه، من بين أولويات "وارسو" تصدير السلع والخدمات التقنية والهندسية إلى دول هذه المنطقة.
بالطبع، يجب الاعتراف بأن هذا البلد، لأسباب مختلفة، يتمتع بعلاقات جيدة ونشطة مع دول الشرق الأوسط، وخاصة إيران العزيزة، في مختلف الفترات التاريخية، والتي كانت دائمًا بارزة في العلاقات بين طهران و"وارسو"؛ حيث استضاف الشعب الإيراني اللاجئين البولنديين خلال الحرب العالمية الثانية منذ أكثر من 8 عقود. ومما لا شك فيه أن الاستفادة من قدرات هذا البلد في الجولة الجديدة من المفاوضات بين إيران والاتحاد الأوروبي يمكن أن يساعد في إنجاح الجهود.
علي بمان إقبالي زارج
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"