"الواقع" لا یمکن أن یُعرض على الرأی العام بشکل عارٍ ومباشر. یُعرض الواقع تحت غطاء من المعنى والمفهوم، ویُبنى المعنى والمفهوم من قبل أشخاص لدیهم أهداف معینة. یشیر الفیلسوف الفرنسی ما بعد الحداثة جان بودریار (Jean Baudrillard) إلى تمثیل الواقع فی المجال الاجتماعی والسیاسی بمصطلح "الواقع الزائف" (Hyper reality). یقول إننا نعیش فی عالم من الواقع الزائف (الواقع الفائق) حیث تکون الوسائط هی اللاعب الرئیسی. تُظهر الوسائط الواقع؛ تُبرز جزءًا من الواقع وتخفی جزءًا آخر، وبهذه الطریقة تُفقد الواقع جوهره.
الوسائل الإعلام إما صانعة للخطاب أو خادمة له، وهی تعرض الواقع على الأذهان بما یتوافق مع متطلبات ذلک الخطاب وحظره. وأقوى أدوات الوسائل الإعلام وأکثرها تأثیراً فی تسخیر الواقع (أی تزویره) هی "الاستعارة". والاستعارة هی تبسیط المعانی والمفاهیم العلمیة المعقدة فی قالب عبارات وأمثال بسیطة یفهمها العامة بسهولة ویتفاعلون معها. ویمکن للوسائل الإعلام أن تسقط الدراسات العلمیة وجهود نخبة من المختصین فی بئر سحیق بمثل واحد، أو أن ترفع قراراً خاطئاً إلى عنان السماء بمثل آخر. والاستعارة لیست مقتصرة على الکلام بل تتجسد أیضاً فی الأفعال. فإظهار غصن الزیتون الأخضر رمزاً للسلام على ید یاسر عرفات، القائد التاریخی لحرکة فتح، هو مثال على "الفعل الاستعاری".
أهمیة صناعة الخطاب والتزود بسلوکیات خطابیة واستعاریة ضرورة ملحة فی عالم الیوم. ففی عالمنا المعاصر، إذا لم تعرض واقعک الوجودی فی قالب معانٍ وسلوکیات خطابیة، فسوف یعرضه الآخرون بصورة کاریکاتیریة مشوهة. فإذا کانت شجاعتک هی صفتک الحقیقیة، فسوف یصورونک جباناً وهکذا.
هذه الظاهرة فی المجتمعات المعاصرة تأخذ طابعًا خاصًا بسبب نقص الوعی فی المجتمعات. کلما کانت المجتمعات غارقة فی المعلومات وأقل وعیًا، زادت نسبة انتشار الأفعال الخطابیة والاستعارات. الأشخاص الذین یتعرضون لقصف المعلومات ویعانون من غرق المعلومات، یمتلکون وعیًا أقل لأن المعلومات لیست وعیًا؛ فالوعی هو نتاج التفکیر والتحلیل المنهجی والنظری، ویُکتسب من خلال الدراسات العمیقة للکتب الأصیلة. إن آفة العدید من المجتمعات هی أن متوسط الأفراد فیها یعتقدون أنهم یمتلکون وعیًا تجاه القضایا المختلفة، بینما هم فی الواقع یفتقرون إلى الوعی، ویقعون فقط فی وسط من المعلومات الصحیحة والخاطئة، ویعتبرون المعلومات وعیًا. بالنسبة لهؤلاء الأفراد، یمکن أن تعطی الأفعال الخطابیة أو الاستعارات توجیهًا لمعلوماتهم الذهنیة، مما یجعل بعض المعلومات تبدو غیر ذات صلة والبعض الآخر صحیحًا، وتخلق معنى خاصًا فی أذهانهم. هذا المعنى الخاص هو ما یُعرف بهندسة العقول التی تسعى إلیها الخطابات. لذا یجب فهم نسبة انتشار الاستعارات والأفعال الخطابیة فی سیاق العناصر التالیة:
1- نهایة احتکار الحکم فی الإعلام؛
2- غرق المجتمعات فی المعلومات؛
3- قصف المعلومات؛
4- نقص الوعی فی المجتمعات؛
5- تعدد المرجعیات الاجتماعیة.
تواجه السیاسة الخارجیة لکل دولة بتحدیات وفرص جدیدة بسبب الواقعیة وشبه الواقعیة. فلکل سیاسة خارجیة مبادئ وأهداف واستراتیجیات تشکل الواقعیة السیاسیة لتلک الدولة، وفی الوقت نفسه، هناک صورة لهذه السیاسة یجب أن تعرض. وإذا لم یقدم العاملون فی السیاسة الخارجیة صورة عن السیاسة الخارجیة فی قالب معان ومفاهیم واستعارات وسلوکیات خطابیة، فإن الآخرین سیصنعون هذه الصورة بشکل مشوه. وهنا تکمن أهمیة العلاقات العامة للمؤسسات والمنظمات والوزارات. فعلاقات العامة لوزارة ما، وخاصة المتحدث باسمها، یجب أن تکون مزودة بالمعرفة المتخصصة والأدب والفن. فعلیهم أن ینتجوا معنى واستعارة لکل واقعة. فعلى سبیل المثال، کیف تم تقدیم عدم الرد الفوری من إیران على العملیة الإرهابیة الإسرائیلیة فی اغتیال إسماعیل هنیة بمعنى واستعارة؟ من هم الذین کان علیهم أن ینتجوا معنى لهذا التصرف؟ نحن لم ننتج معنى، ولکن العدو استخدم استعارة "فخ نتنیاهو لإیران". فی حین أننا کنا نستطیع قبل استعارة العدو أن نستخدم مفهوم "التأنی الاستراتیجی" کاستعارة حتى لا یتم تصویر "الحکمة الشجاعة لإیران" على أنها "خوف من الدخول فی حرب".
نظرة على السیاسة والحکم فی العالم المعاصر تُظهر لنا أننا نعیش فی عصر "حرب الاستعارات"، وأن قوة الاستعارات فی حشد الرأی العام تفوق بکثیر قوة الحقائق الجاریة فی السیاسة. فضعف الوعی فی المجتمعات وغرقها فی المعلومات قد زاد من أهمیة صناعة الاستعارات أکثر من أی وقت مضى. والسیاسی الناجح هو من یستطیع أن یقدم أفعاله وأفعال مؤسسته بلغة الفن والاستعارات الأدبیة.
سید محمد حسینی، خبیر أول[ماجستیر] فی مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"