نظرة على مستقبل کتلة البریکس والتحدیات القادمة
تلعب کتلة البریکس دورًا هامًا فی الاقتصاد العالمی، حیث تمثل 32٪ من إجمالی الاقتصاد العالمی فی عام 2023. ویعتبر هذا الرقم هامًا مقارنةً بحصة 30٪ لمجموعة الدول السبع الصناعیة الکبرى المعروفة باسم G7.
تُعد الدول الخمس الأعضاء فی کتلة البریکس، وهی الصین وروسیا والهند والبرازیل وجنوب إفریقیا، اقتصادات کبیرة بحد ذاتها. ومع انضمام دول أخرى مثل إیران والسعودیة والإمارات العربیة المتحدة ومصر وإثیوبیا إلى الکتلة فی المستقبل، ستزداد قوة هذا التحالف الاقتصادی بشکل کبیر.
لکن السؤال المطروح هو: هل یمکن لهذه الکتلة الاقتصادیة الکبیرة إجراء تبادلاتها التجاریة الداخلیة بعملة واحدة غیر الدولار الأمریکی؟ أو تسویة المدفوعات بعملة أخرى؟ بعبارة أخرى، هل یمکن لکتلة البریکس تحقیق نوع من الاستقلال؟ ولعب دور ثقل موازن فی المعادلات الاقتصادیة العالمیة؟
لا شک أن تحقیق ذلک سیکون بمثابة تطور إیجابی للدول التی ابتعدت عن الغرب أو التی تخضع لعقوبات الولایات المتحدة والغرب. لکن إلى أی مدى هذا الطموح واقعی فی ظل الظروف الحالیة؟
تعتمد اقتصادات دول کتلة البریکس بشکل کبیر على الدولار الأمریکی، واستمر هذا الاعتماد حتى الآن. بینما تسعى الدول التی تخضع لعقوبات الولایات المتحدة وحلفائها إلى تقلیل احتیاطیاتها من الدولار الأمریکی واستبدالها بالذهب أو بعملات أخرى مثل الیورو.
ومع ذلک، تظهر أربع دول من أعضاء کتلة البریکس فی قائمة الدول العشر ذات أعلى احتیاطیات العملات الأجنبیة فی العالم. حیث تحتل الصین المرتبة الأولى بأعلى احتیاطی للعملات الأجنبیة فی العالم بقیمة 2.3 تریلیون دولار أمریکی. بینما تحتل الدول الأخرى الأعضاء فی الکتلة مرتبة متقدمة فی هذه القائمة، حیث تحتل الهند المرتبة الخامسة بـ 521 ملیار دولار أمریکی، وروسیا المرتبة السابعة بـ 446 ملیار دولار أمریکی، والبرازیل المرتبة العاشرة بـ 317 ملیار دولار أمریکی.
تُشیر هذه الإحصائیات إلى أن کتلة البریکس تُعد قوة قویة من حیث احتیاطیات العملات الأجنبیة. (المصدر: موقع مجلس العلاقات الخارجیة الأمریکیة)
التجارب الناجمة عن الأزمات المالیة العالمیة دفعت القوى الاقتصادیة الناشئة بشکل متزاید نحو أفق "العولمة" و "الجهویة". فی هذا السیاق، اتخذت الصین خطوات ناجحة لزیادة مستوى التبادل التجاری مع شرکائها التجاریین، بما فی ذلک رابطة جنوب شرق آسیا (آسیان) وحتى الاتحاد الأوروبی. کما أن التفاعل الأکثر بناءً ورفع مستوى التبادل الاقتصادی لبکین مع دول الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسیا هو هدف ذکی رکزت علیه الصین مؤخرًا بشکل متزاید، وشرطه الأساسی هو تحقیق السلام والاستقرار، خاصة فی الممرات الاقتصادیة الحیویة وخطوط نقل الطاقة. ونتیجة لذلک، زادت التحرکات السیاسیة لبکین فی هذه المنطقة، کما یتم تقییم دورها الوسیطی فی إصلاح العلاقات بین إیران والسعودیة العربیة فی هذا السیاق.
المیزة الرئیسیة للنظام المالی البدیل للدولار فی الکتل الاقتصادیة هی تنویع النظام النقدی بشکل أکبر. خلال الأزمة المالیة العالمیة الکبرى فی عامی 2008 و 2009، دعا حاکم بنک الشعب الصینی آنذاک الاقتصادات الغربیة إلى التعاون لإصلاح النظام النقدی الدولی. تم تقدیم وعود فی اجتماعات مع الغربیین فی هذا الصدد، لکن لم یتم تجاوز ذلک. ولهذه الغایة، تم توجیه الجهود نحو إنشاء مؤسسات مثل: بنک التنمیة الجدید، وبنک الاستثمار فی البنیة التحتیة الآسیویة، ومبادرة الحزام والطریق الجدیدة الصینیة، والتخطیط لأنظمة نقدیة جدیدة.
یعتقد العدید من المحللین أن بریکس، کقطب اقتصادی جدید نسبیًا، لا تسعى حالیًا بشکل أساسی إلى استبدال الدولار، بل تسعى بنظرة واقعیة إلى تنویع نظامها النقدی لیتوافق بشکل أکبر مع الاقتصاد العالمی الیوم. فی الواقع، تقتضی العقلانیة الاقتصادیة أن تکون واقعیة بشأن حالة التجارة العالمیة وسلسلة الاقتصاد الدولی.
بناءً على أحدث بیانات صندوق النقد الدولی (للرُبع الثالث من عام 2023)، فإن 59٪ من احتیاطیات العملات الأجنبیة للدول فی العالم هی حالیًا "الدولار". یأتی الیورو فی المرتبة الثانیة بنسبة 5.19٪ من احتیاطیات العملات الأجنبیة للدول، ثم الین الیابانی بنسبة 4.55٪ والجنیة الإسترلینی بنسبة 4.83٪. على الرغم من القوة الاقتصادیة العالیة للصین، إلا أن 3.72٪ فقط من احتیاطیات العملات الأجنبیة فی العالم هی "الیوان"، وهو ما یأتی بعد الدولار الکندی (5.02٪) فی الترتیب. فی الواقع، من بین العملات الرسمیة للدول الأعضاء فی مجموعة بریکس، تم إدراج "الیوان" فقط بنسبة 2٪ فی التصنیف الرئیسی لاحتیاطیات العملات الأجنبیة لصندوق النقد الدولی، ولم یتم احتساب عملات الدول الأخرى مثل روسیا والهند على الإطلاق ولیس لها مکانة.
یتم إجراء معظم المبادلات التجاریة فی العالم أیضًا بأربعة عملات: الدولار، والیورو، والین الیابانی، والجنیة الإسترلینی.
تظهر دراسة أخرى أن حجم المبادلات التجاریة بین الدول الأعضاء فی مجموعة بریکس مع الولایات المتحدة، مع میزان تجاری إیجابی لصالح بریکس، یبلغ حوالی تریلیون دولار. من بین الدول الأعضاء فی مجموعة بریکس، تبلغ صادرات الولایات المتحدة إلى الصین حوالی 154 ملیار دولار، والبرازیل 53.5 ملیار دولار، والهند 47 ملیار دولار، وجنوب إفریقیا 6.5 ملیار دولار، وروسیا 1.7 ملیار دولار (إجمالی واردات بریکس من الولایات المتحدة: 262.5 ملیار دولار).
فی المقابل، تبلغ الواردات الأمریکیة من مجموعة بریکس مجتمعة 2.737 ملیار دولار، من بینها أکبر حصة للصین بصادرات هائلة تبلغ 575.7 ملیار دولار إلى الولایات المتحدة. بعد الصین، تصدر الهند 91 ملیار دولار سنویًا إلى الولایات المتحدة، بینما تأتی الدول الثلاث التالیة من حیث الصادرات إلى الولایات المتحدة على النحو التالی: البرازیل 41 ملیار دولار، وروسیا 15 ملیار دولار، وجنوب إفریقیا 14.6 ملیار دولار (من الطبیعی أن حجم المبادلات التجاریة بین الولایات المتحدة وروسیا قد شهد انخفاضًا ملحوظًا بعد غزو روسیا لأوکرانیا وعقوبات موسکو، لیصل إلى أدنى مستوى ممکن). المصدر: tradingeconomics
بناءً على ما سبق، یمکن القول إن اعتماد الدول الأعضاء فی بریکس على الدولار، مع الأخذ فی الاعتبار عاملین رئیسیین هما احتیاطیات العملات الأجنبیة السائدة فی معظم الدول وحجم المبادلات التجاریة الکبیرة مع الولایات المتحدة، یجعل إزالة الدولار أمرًا صعبًا إن لم یکن مستحیلًا. بالإضافة إلى ذلک، تفضل الکتل الاقتصادیة الأخرى، باستثناء الولایات المتحدة، إجراء معاملاتها التجاریة بالدولار أیضًا، ویجب مراعاة هذا العامل فی تفاعلات دول بریکس مع الدول الأخرى.
لذلک، اکتسبت فکرة استبدال الدولار تدریجیًا بـ "العملات الرقمیة" فی النظام النقدی الدولی الجدید قوة أکبر. یشیر تعزیز مکانة العملات الرقمیة مثل بیتکوین إلى أن المستثمرین ینظرون إلیها بعین التفاؤل. على الرغم من أن العملات الرقمیة، مثل الذهب والفضة، لها وظیفة أساسیة فی الحفاظ على الأصول والاستثمار، إلا أنها تُستخدم حالیًا فی العدید من المبادلات التجاریة بقیمة تریلیون دولار. إذا تمکنت الدول المصدرة للسلع والخدمات إلى الولایات المتحدة والدول الأخرى فی مجموعة بریکس یومًا ما من تحصیل جزء من مستحقاتها على شکل عملة رقمیة، فیمکننا أن نأمل فی تحرک تدریجی نحو الاستقلال المالی. ومع ذلک، نظرًا لأن أعضاء بریکس موجودون أیضًا فی الکتل الاقتصادیة الکبرى الأخرى مثل مجموعة العشرین، وترتبط اقتصاداتهم أحیانًا باقتصاد الکتلة الغربیة، فإن ظروف التغییر، حتى فی المدى المتوسط، صعبة للغایة.
بالإضافة إلى ذلک، تجدر الإشارة إلى أن عضویة أعضاء بریکس فی الکتل الاقتصادیة الأخرى ومستوى التکامل المحدود بین أعضاء هذه الکتلة هی إحدى القضایا التی تجعل مدى نجاح هذه المؤسسة فی المستقبل وآفاقها المستقبلیة غیر واضحة. هذا هو الموضوع الذی جعل الولایات المتحدة غیر قلقة بشأن تأثیر بریکس على اقتصادها، کما یتضح جلیًا من المواقف الرسمیة والتحلیلات الإعلامیة الأمریکیة بالتزامن مع التحرکات المؤقتة لبریکس.
التجربة التی یجب أن تکون ذات قیمة لاتحاد بریکس حالیًا هی أنه فی إطار مشروع إزالة الدولرة، لا تمتلک العملات الوطنیة القویة للدول الأخرى القدرة على الاستبدال. حتى الیورو للاتحاد الأوروبی لم ینجح فی هذا الصدد. من ناحیة أخرى، اکتسبت العملة الرقمیة مثل بیتکوین مکانة لها تدریجیاً فی بعض الاقتصادات الکبیرة مثل الهند والمملکة المتحدة وحتى ترکیا. لذلک، یبدو أن التحرک نحو تنویع العملات مع إعطاء الأولویة للعملات الرقمیة هو أفضل خیار متاح أمام الکتلة الاقتصادیة لبریکس فی الوقت الحاضر.
بشکل عام، فإن حجة المحللین المتفائلین للغایة بشأن مستقبل بریکس هی أن الدول الأعضاء تتمتع باقتصادات دینامیکیة وناشئة، وأن تطویر هذا التکتل وزیادة عدد الأعضاء من شأنه أن یعزز دوافع إزالة الدولرة والاستقلال. ومع ذلک، فإن وجود اتحاد مصرفی ومالی، والتکامل فی الاقتصاد الکلی، وتقلیل الفجوات الأیدیولوجیة، ومعالجة عدم التوازن التجاری، وخفض دیون الدول المرشحة للعضویة فی المؤسسات الدولیة مثل صندوق النقد الدولی، وإنشاء میثاق ودبیریة دائمة لبریکس، کلها شروط مسبقة ضروریة لنمو هذا الکیان، مما یشیر إلى الطریق الصعب الذی یواجه بریکس.
رضا حقیقی، خبیر فی مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"