شهدت ترکیا فی أعقاب عام 2000 تحولاً فی سیاستها الخارجیة، حیث اتخذت نهجًا یمیل نحو الشرق بدلاً من السیاسة الخارجیة التقلیدیة المتمثلة فی "النظر إلى الغرب". وتعود أهم أسباب هذا التحول فی بنیة السیاسة الخارجیة الترکیة إلى التطورات فی العراق وأزمة سوریا وعدم قبولها فی الاتحاد الأوروبی.
وبالإضافة إلى ذلک، لا یمکن إنکار تأثیر شخصیات مثل أردوغان وأحمد داود أوغلو على تغییر مسار السیاسة الخارجیة الترکیة.
فی هذا السیاق، سعت ترکیا بقوة خلال العقدین الماضیین إلى تعزیز نفوذها فی منطقة غرب آسیا. ویمکن تحدید أهم أهداف وغایات هذه السیاسة بـ "عامل الطاقة" و "الحاجة إلى إحداث تحرک اقتصادی فی ترکیا" و "التحول إلى لاعب نشط فی غرب آسیا".
من منظور ما، أدى الطلب الداخلی على الطاقة ونقل الطاقة إلى أوروبا إلى سعی ترکیا لزیادة الاعتماد المتبادل مع الدول النفطیة فی منطقة الخلیج الفارسی.
لتحقیق ذلک، وبالطبع لتحقیق أهداف ومصالح أخرى، عقدت ترکیا رسمیًا عام 2008 معاهدة استراتیجیة سیاسیة واقتصادیة وأمنیة مع مجلس التعاون الخلیجی، ووقعت معاهدة مع دول الخلیج الفارسی، کانت الأولى من نوعها بین مجلس التعاون الخلیجی والدول الأخرى.
على الرغم من أنه بعد إبرام هذه المعاهدة، لم تتخذ ترکیا على الفور خطوات للعب دور عسکری وسیاسی فی المنطقة بسبب علاقاتها الوثیقة مع إیران والنشاط الأمریکی الفعال فی منطقة الخلیج الفارسی، إلا أنها سعت بهدوء لتوسیع علاقاتها ونفوذها فی دول المنطقة.
فی عام 2014، وقعت ترکیا وقطر اتفاقیة أمنیة استراتیجیة سمحت لترکیا بإنشاء قاعدة عسکریة فی قطر. وتم نشر حوالی 3000 جندی بری وجوی وبحری ومدرب فی هذه القاعدة. فی عام 2017، بعد أن فرضت السعودیة وحلفاؤها عقوبات على قطر، قدمت ترکیا، بالإضافة إلى المساعدة الاقتصادیة، قوات عسکریة جدیدة إلى قطر وقاعدتها کإشارة إلى دعم أنقرة للدوحة. کما قدمت قطر لترکیا 15 ملیار دولار مساعدة مالیة فی عام 2018.
فی عام 2020 أیضًا، بدأت المحادثات بین ترکیا وعُمان حول مختلف القضایا، بما فی ذلک التعاون العسکری واحتمال إنشاء قاعدة بحریة ترکیة فی عُمان. تُعتبر هذه المحادثات بمثابة سعی ترکی لزیادة النفوذ فی بحر عمان والخلیج الفارسی وحتى الیمن.
ازداد حضور ترکیا فی هذه المنطقة بشکل ملحوظ فی السنوات الأخیرة، وذلک لِما یتمتع به البلدان من علاقات ثنائیة راسخة.
ویمکن حصر دوافع هذا التوجه الترکی فی نقاط رئیسیة:
- الموقع الاستراتیجی لعُمان وثرواتها الطبیعیة: تُعدّ هذه العوامل بمثابة جاذبیة أساسیة لعُمان بالنسبة لترکیا.
- الإمکانیات العسکریة والصناعیة الترکیة: تُقدم هذه الإمکانیات موقعًا مناسبًا لنقل الطاقة إلى أوروبا، بالإضافة إلى اقتصادها المتنامی، مما یدفع دول الخلیج الفارسی، بما فی ذلک عُمان، إلى السعی لتوسیع نطاق التعاون بین الجانبین.
فی هذا السیاق، من المهم التأکید على أن السیاسة الخارجیة الترکیة فی الخلیج الفارسی لا تُمثل تناقضًا بین نهجها العسکری-الأمنی ونهجها الاقتصادی التنموی.
وذلک لِما تولیه السلطات الترکیة اهتمامًا خاصًا بخفض التوتر فی أوقات التصاعد الشدید. لطالما أعطت ترکیا الأولویة للنهج الاقتصادی فی علاقاتها، ولم تُضحی أبدًا باقتصادها من أجل مسائل أمنیة-سیاسیة.
یُعدّ نموذجًا على ذلک سیاسة ترکیا تجاه الإمارات العربیة المتحدة والمملکة العربیة السعودیة، حیث تُعانی هذه الدول من خلافات سیاسیة-أیدیولوجیة مهمة مع ترکیا، خاصة فی مجالات مثل مصر ولیبیا وسوریا.
وعلى هذا النحو، بدأت ترکیا منذ عام 2020، وبعد فترة من التوتر والمشاحنات اللفظیة، باتخاذ خطوات دبلوماسیة لِإصلاح علاقاتها مع دول الخلیج الفارسی، خاصة السعودیة والإمارات.
ومنذ ذلک الحین، وقعت هذه الدولة عقودًا بقیمة ملیارات الدولارات مع دول المنطقة، بما فی ذلک المملکة العربیة السعودیة والإمارات العربیة المتحدة.
فی أعقاب تقلیص الوجود العسکری الأمریکی فی منطقة الخلیج الفارسی (منذ عام 2021)، حددت ترکیا دورًا أکثر نشاطًا لنفسها فی المعادلات الإقلیمیة، وقامت بتأسیس تعاون واسع النطاق مع الفاعلین المؤثرین فی منطقة الخلیج الفارسی بأهداف بعیدة المدى.
فی أحدث خطوة، وقعت ترکیا فی مارس 2024 (فروردین 1403) اتفاقیة لبدء مفاوضات لإبرام اتفاقیة تجارة حرة (FTA) مع أعضاء مجلس التعاون الخلیجی.تُتیح هذه الاتفاقیة التجارة الحرة للسلع والخدمات بین هذه الدول، وتسهل الاستثمار والتجارة، وتعزز علاقاتها التجاریة. فی الواقع، ستخلق اتفاقیة التجارة الحرة الأخیرة بین هذه الدول واحدة من أهم مناطق التجارة الحرة فی العالم بین ترکیا وأعضاء مجلس التعاون الخلیجی، وقدرت السلطات الترکیة قیمتها الاقتصادیة بـ 2.4 تریلیون دولار.
فی هذا السیاق، لا تسعى ترکیا فقط إلى حل مشکلاتها الاقتصادیة من خلال هذه الاتفاقیات وتطویر العلاقات، بل تسعى دول الخلیج الفارسی أیضًا إلى جذب المساعدة الترکیة لتطویر الصناعات المحلیة ونقل التکنولوجیا فی إطار جهودها الواسعة لتنویع اقتصاداتها وتقلیل الاعتماد على النفط.یُشکل هذا الأمر تحدیًا للأمن القومی للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة من جوانب مختلفة.
فی المقدمة، بالنظر إلى النهج التاریخی لترکیا ودول الخلیج الفارسی ، یبدو أن هذه الدول، من خلال تطویر علاقاتها الثنائیة، تسعى إلى إیجاد توازن استراتیجی مقابل الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. على الرغم من أن هذه الدول قد أظهرت فی السنوات الأخیرة ضوءًا أخضر لتطویر العلاقات وخفض التوتر مع إیران، إلا أنها فی نفس الوقت حریصة على خلق فرص وخیارات متعددة لعلاقاتها الخارجیة فی المنطقة، مما یشکل إنذارًا مبکرًا لدور إیران النشط فی المعادلات الاقتصادیة والسیاسیة والأمنیة للمنطقة.
نقطة مهمة أخرى هی أنه فی السنوات الأخیرة، سعى المنافسون الإقلیمیون لإیران، وخاصة ترکیا ودول الخلیج الفارسی ، أکثر من أی وقت مضى، إلى إیجاد توازن وتوازن دقیق وفعال بین سیاساتهم الأمنیة والاقتصادیة، وتحقیق أهدافهم السیاسیة والأمنیة بطریقة لا تضر باقتصادهم ونموهم التکنولوجی وصناعة السیاحة. یبدو أن هذا هو النهج الذی تتجه إلیه جمیع الدول النامیة الراغبة فی التقدم والتغییر فی العالم المتغیر، وإذا اتبعت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مسارًا مختلفًا، فستتحول تدریجیاً إلى لاعب خاسر وغیر متطور.
محمد مهدی مظاهری، أستاذ جامعی
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"