أعلنت محکمة العدل الدولیة یوم الجمعة 6 بهمن 1402هـ، الموافق 26 ینایر 2024، حکمها الخاص بشأن شکوى جنوب أفریقیا ضد النظام الإسرائیلی بتهمة "ارتکاب جرائم إبادة جماعیة فی غزة"، وضرورة اتخاذ إجراءات استثنائیة. ووفقاً لهذا الحکم، هناک أدلة على حدوث إبادة جماعیة فی غزة؛ ولذلک ترفض المحکمة طلب إسرائیل بإلغاء القضیة.
وبحسب رئیس هذه المحکمة، تشیر المعلومات إلى مقتل أکثر من 25 ألف فلسطینی وتهجیر أکثر من ملیونی شخص خلال الحرب. إن الشعب الفلسطینی محمیبموجب اتفاقیة حظر القتل الجماعی، وعلى النظام الإسرائیلی اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع جرائم القتل ضد مجموعة بشریة. ویجب على هذا النظام أیضًا ضمان عدم قیام قواته بارتکاب جریمة الإبادة الجماعیة واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسین الوضع الإنسانی فی غزة.
محکمة العدل الدولیة، والمعروفة أیضًا باسم محکمة العدل الدولیة، هی إحدى الأجهزة القضائیة الرئیسیة للأمم المتحدة، ویقع مقرها الرئیسی فی هولندا. ووفقا للنظام الأساسی، تتمتع هذه المحکمة بسلطتین خاصتین؛ التعامل مع النزاعات القانونیة بین الدول وغیرها من الجهات الفاعلة فی القانون الدولی، وهو ما یسمى "اختصاص التحکیم". وکذلک تقدیم الفتاوى فی الرد على الأسئلة القانونیة للمنظمات الدولیة ووکالات الأمم المتحدة المتخصصة والجمعیة العامة للأمم المتحدة، وهو ما یشار إلیه بـ "الاختصاص الاستشاری".
وبناء على ذلک، قامت جنوب أفریقیا، مستشهدة بالمادة 9 من اتفاقیة الإبادة الجماعیة کأساس لاختصاص المحکمة فی التعامل مع هذه القضیة، بتقدیم شکوى ضد الحکومة الإسرائیلیة فی المحکمة لأول مرة والمحکمة، وهی تؤکد اختصاصها فی النظر فی هذه القضیة، أصدرت قرارا یؤکد ادعاءات جنوب أفریقیا بارتکاب جرائم إبادة جماعیة فی غزة. وبما أن فتاوى محکمة العدل الدولیة، بحسب النظام الأساسی، ملزمة ونهائیة، وتعطی صاحب المصلحة الحق فی تقدیم شکوى إلى مجلس الأمن، فإن هذه المسألة مهمة من أبعاد مختلفة.
بدایة، أثبت هذا الحکم التهم المتعلقة بالقتل الجماعی للشعب الفلسطینی على ید إسرائیل، وطالب هذا النظام برفع الحصار عن قطاع غزة والوفاء بالتزاماته فی إطار القانون الدولی.
ومن ناحیة أخرى، یمکن اعتبار فتوى محکمة العدل الدولیة بشأن الحرب الإسرائیلیة على غزة سابقة مهمة فی مجال التعامل مع انتهاکات حقوق الإنسان أثناء الحروب. ویبین هذا الرأی أن محکمة العدل الدولیة، إذا کان لها اختصاص، یمکنها التحقیق فی انتهاکات حقوق الإنسان أثناء الحروب والمطالبة بوقف هذه الانتهاکات.
کما یظهر هذا التصویت أن المجتمع الدولی یأخذ انتهاکات حقوق الإنسان أثناء الحروب على محمل الجد، وحتى الأنظمة القویة التی تحظى بدعم إعلامی دولی وشامل، مثل إسرائیل، لا یمکنها الهروب من عواقب أفعالها اللاإنسانیة إلى الأبد. بل على العکس من ذلک، فإن إصدار هذا الرأی یعطی الأمل للفلسطینیین وغیرهم من ضحایا انتهاکات حقوق الإنسان بأن المجتمع الدولی سیدعمهم.
وکان التأثیر الأهم لهذا التصویت هو فقدان النظام الصهیونی للقوة الناعمة والسمعة والمصداقیة الدولیة، التی حاول اللوبی القوی فی تلک السنوات توفیرها لهذا النظام من خلال التأثیر على وسائل الإعلام وصناعة السینما والتلفزیون وإظهارها کضحیة مظلومة وداعمة للدیمقراطیة وحقوق الإنسان. والآن، فإن قرار المحکمة لم یدمر صورة ومصداقیة النظام الإسرائیلی باعتباره عمیلاً للإبادة الجماعیة فحسب، بل یزید أیضاً من تکلفة مصاحبته لمختلف البلدان؛ إلى حد أن السلطات الأوغندیة برأت قاضیها فی المحکمة الذی حکم لصالح إسرائیل. وبناء على ذلک، لا بد من القول إن النظام الإسرائیلی تمت محاکمته فی محکمة الإبادة الجماعیة الدولیة قبل ساعات قلیلة من "یوم ذکرى المحرقة"، فهی هزیمة ثقیلة لهذا النظام وانتصار کبیر للشعب الفلسطینی المظلوم.
وعلى الرغم من نقاط القوة المذکورة أعلاه، یبدو أن حکم المحکمة کان متحفظا إلى حد ما فی بعض جوانبه؛ جنوب أفریقیا، بالنظر إلى الحکم السابق لمحکمة لاهای فی قضیة شکوى أوکرانیا ضد روسیا عام 2022 (اسفند 1400)، والذی أعلن فیه قضاة المحکمة فی أمرهم المؤقت أن "روسیا ملتزمة بإنهاء جمیع عملیاتها العسکریة على الفور فی أوکرانیا". وطلب من المحکمة إصدار أمر مؤقت بشأن حرب غزة قبل إصدار الحکم الرئیسی، والأمر بتعلیق إسرائیل عملیاتها العسکریة فی غزة وضدها. ومع ذلک، لا یوجد أی أثر لمثل هذا الحکم فی أمر المحکمة المؤقت، وینص فقط على أنه یجب على إسرائیل ضمان عدم قیام قواتها بارتکاب أعمال إبادة جماعیة واتخاذ إجراءات لتحسین الوضع الإنسانی للفلسطینیین المحاصرین. ویظهر مثل هذا الأمر المؤقت أن تأثیر النظام الإسرائیلی فی المؤسسات الدولیة لا یزال على مستوى عال، ویبدو أن الفریق القانونی لهذا النظام تمکن أیضاً من إقناع قضاة هذه المحکمة بأن العملیات العسکریة التی یقوم بها هذا النظام ضد حماس وأهل غزة مبررون بصیغة "الدفاع المشروع" مقبول وضروری!
والآن، من الناحیة القانونیة، فإن الخطوة التالیة بعد إعلان حکم محکمة العدل الدولیة هی أن یرسل الأمین العام للأمم المتحدة تعلیماته إلى مجلس الأمن وفقا لنظام محکمة لاهای الأساسی. ورغم أنه لا یخفى على أحد أن الدعم الأمیرکی فی مجلس الأمن للنظام الإسرائیلی، کما حال دون وقف إطلاق النار وإنهاء هذه الحرب المدمرة، ربما یحول دون فرض ضغوط جدیة على هذا النظام، لکن الاختلاف فی الرأی بین الولایات المتحدة والسلطات الإسرائیلیة حول حل الدولتین لإنهاء هذه الأزمة وقلق بایدن من ضغوط الرأی العام عشیة الانتخابات الرئاسیة فی هذا البلد وتکالیف الدفاع عن نظام إبادة جماعیة، کلها عوامل یمکن أن تضعف الدعم القوی الذی تقدمه الولایات المتحدة للنظام الإسرائیلی وتمهد الطریق لإجبار إسرائیل على الانصیاع لقواعد القانون الدولی.
ومن ناحیة أخرى، فإن حکم محکمة لاهای ضد النظام الإسرائیلی یمکّن المدعی العام للمحکمة الجنائیة الدولیة (التی تتعامل مع الجرائم الدولیة للأفراد ومسؤولی الدولة) من اتخاذ إجراءات ضد کبار مسؤولی النظام؛ ولذلک یبدو أن قرار المحکمة یعتبر قضیة مؤثرة رغم النزعة المحافظة القائمة ویمکن أن یکون حجر الزاویة والأساس لإجراءات قانونیة جدیدة ضد النظام الإسرائیلی، الذی یستخدم أدوات مثل الإبادة الجماعیة وانتهاکات قوانین الحرب والحقوق الإنسانیة لتحقیق النصر.
محمد مهدی مظاهری، أستاذ جامعی
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"