منذ بدایة الحرب الروسیة الأوکرانیة فی 24 فبرایر 2022، أی قبل نحو عامین، واجهت دول أوروبا الوسطى (بولندا والمجر والتشیک وسلوفاکیا) خیارات جیوسیاسیة صعبة وتضارب مصالح وسیاسات و التحیزات الاقتصادیة. وقد ترکت هذه الاختیارات آثارها الخاصة فی کل من هذه البلدان.
ومن بین دول أوروبا الوسطى، فإن المجر، على الرغم من المساعدات الإنسانیة والمجانیة لکییف وتوفیر انتقال آمن لأکثر من ملیون طالب لجوء أوکرانی ونقلهم إلى دول أوروبا الغربیة عبر المرور عبر الأراضی المجریة، إلا أنها تتمتع بسیاسة مستقرة فی قضیتین أساسیتین لقد اعتمدت الدعم على أساس المصالح الوطنیة، وسار فی الاتجاه نفسه حتى الآن.
على الرغم من المعارضة القویة والعداء التاریخی مع روسیا، فضلاً عن تقدیم الکثیر من المساعدات الدفاعیة لأوکرانیا، فإن بولندا لدیها العدید من المشاکل مع کییف فی قضایا مثل النزاعات الحدودیة والسماح بتصدیر وعبور الحبوب الأوکرانیة إلى أجزاء أخرى من أوروبا. لکن یبدو أنه مع تغیر الحکومة فی بولندا وانتخاب دونالد توسک (الرئیس السابق للمجلس الأوروبی) رئیسا جدیدا لوزراء ذلک البلد، ستتحسن العلاقات بین وارسو وکییف وستتحسن سیاسات بولندا تجاه أوکرانیا، وستکون متوافقة وأکثر تنسیقا مع سیاسات بروکسل.
تعتبر براغ وبراتیسلافا أیضاً محرکین قویین لدعم کییف داخل الکتلة الغربیة (الاتحاد الأوروبی الأطلسی) وکانتا دائماً داعمتین لأوکرانیا مالیاً وعسکریاً، لکن بودابست لها وجهة نظر مختلفة وتتناقض مع جیرانها تجاه کییف، وواصلت هذه السیاسة، خاصة مع إطالة أمد الحرب فی أوکرانیا.
وبطبیعة الحال، تجدر الإشارة إلى أن المجر عضو فی حلف شمال الأطلسی (الناتو) وعضو فی الاتحاد الأوروبی فی نفس الوقت، وهی مطالبة بطریقة أو بأخرى بتنفیذ جمیع التزاماتها بناءً على قواعد وأنظمة هاتین المؤسستین والالتزام بقراراتهما. ومع ذلک، ترتبط الجغرافیا السیاسیة هنا بالهویة الوطنیة للهنغاریین.
على الرغم من تخصیص مساعدات مالیة من الاتحاد الأوروبی للدول الأعضاء خلال وباء کورونا، بسبب الخلافات نفسها بین بروکسل وبودابست، إلا أن المفوضیة الأوروبیة (باعتبارها الهیکل الحاکم لهذا الاتحاد، والتی لها الکلمة الأخیرة فیما یتعلق بالاقتصاد و (تخصیص أموال دعم الاتحاد الأوروبی للدول الأعضاء) یمنع دفع حوالی 10 ملیارات یورو للمجر.
وفیما یتعلق بمسألة الهویة الوطنیة، فإن القضیة الأولى هی وجود الأقلیة المجریة التی تعیش فی الأجزاء الشرقیة من أوکرانیا، وهو الأمر الذی لا ترغب کییف فی قبوله، الاعتراف بحقوقهم العرقیة والقومیة الأساسیة، بما فی ذلک تدریس اللغة المجریة، والمسألة الثانیة هی النظرة الجیوسیاسیة لفیکتور أوربان، رئیس وزراء المجر، بشأن مبدأ الحرب فی أوکرانیا، الذی رغم رفضه لها، یواصل الحرب على حساب جمیع الدول الأوروبیة بما فی ذلک بلاده.
یعد رئیس وزراء المجر أحد الشخصیات الأوروبیة القدیمة (فی الواقع، رئیس الوزراء الأطول عمراً بین أعضاء الاتحاد الأوروبی) الذی أکد على المصالح الوطنیة لبلاده حتى على حساب عقوبات بروکسل واستمر فی سیاساته المعلنة.
وبطبیعة الحال، لا ینبغی لنا أن نغفل حقیقة أن ما بین 65% إلى 75% من احتیاجات المجر من الطاقة تأتی من روسیا وسیتم تشغیل محطة الطاقة النوویة الثانیة التی تسمى باکیش بمساعدة روسیا بقیمة 10 ملیارات دولار بالقرب من بودابست بحلول نهایة هذا العقد.
ولذلک، وعلى الرغم من إصرار الدول الأوروبیة الکبرى على مواصلة مساعدة أوکرانیا، واستمرار هذه السیاسة، فإن المجر وحدها هی التی تمکنت من إقامة توازن نسبی بین مصالحها الوطنیة وأسلوب التدخل فی الحرب.
ویمکننا أن نتوقع أن الحرب فی عام 2024 قد لا تستمر بالکثافة التی شهدتها العامین الماضیین، ولکن على نطاق أکثر توازناً وأقل اتساعاً، لأن المصیر النهائی للحرب یعتمد على العدید من المتغیرات خارج المنطقة، والتی لا تشمل أوروبا الوسطى فحسب، بل تشمل أیضاً المناطق الواقعة خارجها.
ومن خلال الأدلة المتاحة، یتضح أن المجریین، بناءً على خیاراتهم، اعتمدوا مواقف أکثر توازناً نسبیاً من الناحیة الجیوسیاسیة مقارنة بشرکائهم الأوروبیین الآخرین، على الرغم من أنهم بسبب هذه المواقف، فإنهم سیواجهون المزید من التحدیات داخل الاتحاد الأوروبی فی الأشهر المقبلة.
حمیدرضا نافذعارفی، خبیر أول فی مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"