التعاطف والسیاسة فی إیران فی العصر الصفوی

تعتبر مسألة الشکلیات والقواعد والمبادئ المتعلقة بها من القضایا المهمة فی مجال الدبلوماسیة، والتی تشیر عمومًا إلى الجوانب الشکلیة والظاهریة للعلاقة، وفی الوقت نفسه، لا ینبغی اعتبارها منفصلة تمامًا من محتوى العلاقة.
27 جمادى الأولى 1445
رویت 893
محیا شعیبی عمرانی

تعتبر مسألة الشکلیات والقواعد والمبادئ المتعلقة بها من القضایا المهمة فی مجال الدبلوماسیة، والتی تشیر عمومًا إلى الجوانب الشکلیة والظاهریة للعلاقة، وفی الوقت نفسه، لا ینبغی اعتبارها منفصلة تمامًا من محتوى العلاقة. إن الجهل بقواعد الاحتفالات یمکن أن یخلق أرضیة لسوء الفهم والخلافات ویخلق الخلل والضعف فی الصورة التی تقدمها کل دولة للعالم من خلال ساستها.  بشکل عام، یُعزى إضفاء الطابع الرسمی على الإجراءات الشکلیة وصیاغة مبادئ توجیهیة محددة فی هذا المجال إلى عصر الدبلوماسیة الجدید وفی حوالی القرن التاسع عشر. فیما یتعلق بتاریخ علاقات إیران الخارجیة، هناک بشکل خاص انطباع بأن هذه العلاقات، على الأقل حتى منتصف عهد القاجار، کانت تفتقر إلى قواعد وخطط وسیاسات واضحة وکانت فقط فی موقف رد الفعل، ولم تکن هناک مبادئ توجیهیة بشأن الأطر العمل الدبلوماسی – بمختلف جوانبه.

وهذا التصور غیر صحیح، والدراسة الدقیقة لمختلف المصادر والوثائق تظهر أن الحکومات الإیرانیة، التی بدأت العمل بشکل مستقل فی مجال العلاقات الخارجیة منذ العصر الصفوی (القرن السادس عشر المیلادی)، کانت تدرک ضرورة الانتظام والتنسیق. وصیاغة الأطر والمبادئ فی هذا العمل، والمبادئ التوجیهیة ویبقى علیهم توضیح هذه المبادئ.  وتکشف هذه التعلیمات "الاحتفالات الدبلوماسیة" للحکومة الصفویة.

ومن أهم هذه التعلیمات وجدیرة بالاهتمام ما یتعلق بمراسم الاستقبال والترحیب لناصر الدین همایون، الملک اللاجئ لحکومة غورکان فی الهند، والذی أصبح لاجئاً إلى إیران فی عهد الشاه طهماساب الصفوی. وقد وردت تفاصیل الأحداث التی أدت إلى فقدان عرشه فی الهند وهروبه من تلک المنطقة فی المصادر التاریخیة وتفصیلها خارج نطاق هذا المقال. ولتوضیح الحدیث فقط، تجدر الإشارة إلى أن همایون -ابن ظاهر الدین بابور مؤسس الدولة الجورکانیة ووالد أکبر شاه أقوى وأشهر حکام تلک الدولة- نتیجة للصراعات السیاسیة. الصراعات فی أراضی حکومته وخاصة ضد تقدم شیر شاه سوری حاکم المناطق الشمالیة من الهند، لکنه فشل وحتى أخوه کمران میرزا توقف عن دعمه وانضم إلى أعدائه، وذلک فی عام 1544م 951ق.  دخل أراضی الدولة الصفویة عبر سیستان وقوبل بلطف وعطف مسؤولی هذه الحکومة واهتمام خاص من الشاه طهماسب.

وعندما وصل خبر وصول هذا الملک الهارب وطالب اللجوء إلى بلاط الشاه طهماساب، أصدر أوامر مفصلة ومطولة لموظفی حکومته وأوضح لهم "تعلیمات" التعامل مع هذا الضیف الهندی.  والیوم لدینا مثالان على هذه المراسیم، أحدهما موجه إلى محمد خان شرف الدین أوغلو والی خراسان، والآخر موجه إلى علی قالی خان شاملو، جنرال الحکومة الصفویة.  هذه المراسیم طویلة جداً وحجمها یفوق الحجم المعتاد للمراسیم الصفویة، وفیها یتم شرح مراسم وعادات استقبال الشاه الهندی بتفصیل کبیر.

ومن أجل رسم صورة لکمیة التفاصیل المذکورة فی هذه التعلیمات، لا یسعنا إلا أن نذکر هذا القسم الذی أمر به الشاه طهماسب بتجهیز المنازل التی سیتوقف فیها الضیوف على طول الطریق فی الیوم السابق  ویقومون بتثبیت "الخیام الرقیقة والبیضاء والمزخرفة والمظلات الساتان والمخمل" فی هذه المنازل من الیوم السابق وعندما یصلون إلى الوجهة، یقومون بإعداد "شراب الورد اللذیذ وعصیر اللیمون" ویبردونه بـ "الثلج والجلید" وبعد الشربات، وعلیهم أن یقدموا للضیف "مربى التفاح المعسول والبطیخ والعنب والخبز الأبیض" ویضعوا "الورد والعنبر الأشهب" داخل حجابه، وبالطبع فإن تفاصیل طبخ "الخبز الأبیض" متضمنة أیضًا فی هذه طلبات.

وفی الواقع فإن مضمون ما ورد فی هذه المراسیم یوضح نظرة الإیرانیین فی العصر الصفوی إلى الاحتفالات الدبلوماسیة لاستقبال ضیف مهم، وفی هذه النظرة أولا وقبل کل شیء اللطف والتعاطف والسلوک الإنسانی تجاه ملک مهزوم ومکسور القلب و معاملته یبدو وکأنه ضیف ملکی مهم ومکرم. ومظهر هذا السلوک الإنسانی کبیر لدرجة أن الشاه طهماساب رفض تسلیم ضیفه للجورکانیین مقابل الوعد باستسلام قندهار الذی قدمه للحکومة الصفویة کمران میرزا شقیق همایون.  ولا ننسى أن السیطرة على قندهار کانت الرغبة السیاسیة للصفویین منذ الأیام الأولى لتشکیل هذه الحکومة، وللشاه طهماساب نفسه عام 1536م/942ق.  أی أنه قبل حوالی ثمانی سنوات من هذا التاریخ، کان قد شرع فی حملة واسعة النطاق لفتح قندهار، لکنه رغم ذلک رفض تحقیق هذه الرغبة السیاسیة لحکومته بخیانة وتسلیم الشخص الذی آواه إلى أعدائه.  تؤکد هذه الإرشادات على "إراحة وطمأنینة" هذا الضیف.

ومن العناصر الأخرى التی یمکن رؤیتها بوضوح فی هذه التعلیمات هو مراعاة جمیع عادات وطقوس الضیافة فی ثقافة الإیرانیین المسلمین.  وتتراوح هذه العادات من الاهتمام بأدق التفاصیل لتوفیر الراحة والیسر للضیف (على غرار ما ذکر فی السطور السابقة)، إلى معاملته بلطف واحترام، مثل أمر الضیوف بـ”الجلوس على مقعدین مهذبین لرکبتین أمام الملک".شاه فی هذه المراسیم، یؤکد طهماسب بقوة على إظهار الأدب والاحترام ویأمر حاکم خراسان بالانتباه إلى حقیقة أن ولی العهد الصفوی محمد میرزای البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا (السلطان التالی محمد خدابنده) الذی حکم خراسان حسب التقلید الصفوی أراد أن یأخذه إلى همایون، "یجب أن یتصرف هذا الابن تجاه النبلاء الذین هم تراث آبائه وأجداده" ویقدم أیضًا الهدایا والهدایا لکل من خدم الملک الهندی. کما أنه یدرک الحالة النفسیة لضیفه ویحاول أن یمنعه من الشعور بالملل والانکسار بسبب الأحداث التی مر بها، ولذلک ینصحهم بالتفکیر فی التحدث معه "اجعله سعیدًا واحدًا تلو الآخر بنفس اللغة القویة". کما یأمر بإزالة الملل، حیث یکون الموسیقیون المشهورون مثل مولانا قاسم جونی، ودوست محمد خافی، والأستاذ یوسف مودود - الذین یذکرهم الشاه على وجه التحدید - وأی مطربین وموسیقیین مشهورین آخرین فی خدمته "فی کل وقت" و"کلما کان الوقت". إنهم یریدون الغناء دون توقف، لإسعاد ذلک الإمام".

لکن وراء کل هذه الحالات التی تشهد على الجوانب الإنسانیة والأخلاقیة لهذه التعلیمات، فإن هذه النصوص مهمة من الناحیة السیاسیة واهتمام الشاه الصفوی بمختلف جوانب الممارسة الدبلوماسیة وتظهر أنه، على عکس الرأی العام، لدى السیاسیین الإیرانیین رؤیة واضحة، صورة لخصوصیات وعمومیات النشاط الدبلوماسیوما یظهر بوضوح فی هذه التعلیمات هو النظر إلى هذا الضیف الهارب والمهزوم کملک محتمل یمکن مساعدته فی دفع سیاسة إیران على حدودها الشرقیة، خاصة فی منطقة قندهار، من خلال تکوین روابط عاطفیة معه فی هذه الظروف الصعبة.  کانت للهند أهمیة کبیرة فی السیاسة الخارجیة للصفویین لأسباب مختلفة، وکانت الحکومة الصفویة تحاول الوصول إلى موقع متفوق بالنسبة لتلک الحکومة بمختلف الوسائل السیاسیة والدبلوماسیة والعسکریة، والآن هذا الشرط یعنی إیواء أحد الطرفین وتورطت فی صراعات ونزاعات سیاسیة، وکانت أراضی الهند فرصة للسیاسة الخارجیة للحکومة الصفویة لا ینبغی تفویتها.  ولهذا اعتبروه فی نص هذه الوصایا "عطیة إلهیة".

وعلیه، یتضح فی هذه التعلیمات سعی الحکومة الصفویة لتقدیم الصورة الأفضل والأقوى والأکثر تأثیراً عن نفسها.  فی الواقع، فإن مراسم الاستقبال والترحیب بالملک المحتمل لغورکان، الذی انفصل عن عرشه لبعض الوقت، یجب أن تکون بطریقة تظهر ازدهار ومجد ورفاهیة وقوة الحکومة الصفویة، ومن الطبیعی أن یعود جزء من هذه السلطة إلى السیاسیین ولهذا السبب تم التأکید مرات عدیدة على أن الأشخاص الذین یتحدثون ویرافقون همایون لأسباب مختلفة یجب أن یکونوا "حکماء وذوی خبرة" و"محبوبین وموثوقین" و أیضاً "لمدة ثلاثة أیام، سیکون جمیع الأمراء والجنود مختلفین" فی عینیه لتتبین له قوة الحکومة الصفویة وجاهزیتها العسکریة ولهذا السبب یأمر الشاه طهماساب حاکم خراسان بالحضور فی اللقاءات بین ولی العهد محمد میرزا وهمیون، بحیث إذا سُئل الأمیر سؤالاً ولم یتمکن من إعطاء إجابة مناسبة لصغر سنه، تواضع أو نقص المعرفة "یجب على دولة اللجوء أن تعطی إجابة جدیرة بالاهتمام".  وبشکل عام، ینبغی تقدیم أفضل صورة للحکومة الصفویة، سواء من حیث الرخاء والرفاهیة والرخاء، أو من حیث جاهزیة وقدرة مسؤولی تلک الحکومة، على همایون.

وأخیرًا، بعد کل هذه التوصیات التی شملت أدق الأمور فی شکل ومضمون استقبال هذا الضیف، تم التأکید على "المذکرات المنقحة" (= التقریر الکامل والدقیق) لکل ما حدث و"جمیع الحکایات والنوادر" "الروایات" تکتب "سیئة وجیدة" وتقدمها إلى "محکمة معالی" للحصول على معلومات عن کافة المواقف.  حتى أن الشاه عین الشخص المسؤول عن کتابة هذا التقریر (موزودین حسین، شریف دار السلطانة هرات) وقدمه على أنه "رجل کاتب جید وله وقف".

ویمکن فحص ودراسة هاتین الوصیتین من جوانب مختلفة ویمکن اکتشاف زوایا مختلفة للموضوع فیهما.  من أی زاویة، بالطبع، فإن النهج المنتظم والدقیق والقائم على القواعد الذی اتبعه الصفویون فی السلوک الدبلوماسی وریادتهم فی وضع مبادئ توجیهیة لهذا السلوک، بهذا المستوى من التفصیل والدقة، أمر مثیر للإعجاب ومفید.  دعونا لا ننسى أن الحکومة الصفویة قامت أیضًا بتجمیع المبادئ التوجیهیة الأولى للمراسلات الدبلوماسیة فی تاریخ إیران، وکان لدیهم فهم واضح لضرورة الانتظام فی الدبلوماسیة.

 محیا شعیبی عمرانی، خبیرة فی مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة

  "إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است