استمرارًا لجهودها فی السنوات الأخیرة للعب دور الفاعل النشط والفعال ، استضافت المملکة العربیة السعودیة فی الخامس والسادس من أغسطس (5 و 6 أغسطس) اجتماعا دولیا للتوصل إلى تسویة سلمیة للحرب فی أوکرانیا ، وإن کان ذلک فی غیاب الجانب الروسی. الغرض من هذا الاجتماع الذی حضره ممثلون من حوالی 40 دولة من بینها البرازیل وإنجلترا والهند والصین وأمریکا وترکیا وجنوب إفریقیا ودول الاتحاد الأوروبی ، مراجعة خطة السلام المکونة من 10 نقاط والتی اقترحها الرئیس الأوکرانی زیلینسکی فی نوفمبر 2022. وتشمل هذه الخطة التبادل المتبادل للأسرى وکذلک ضمان الأمن النووی والغذائی وأمن الطاقة. تتضمن خطة السلام التی اقترحها زیلینسکی أیضاً مبادئ مثل انسحاب جمیع القوات الروسیة من أوکرانیا واستعادة "وحدة الأراضی الکاملة" لهذا البلد. کما دعا زیلینسکی إلى تقدیم ضمانات أمنیة لأوکرانیا وإنشاء آلیة دولیة لتعویض "الخسائر المالیة" للبلاد باستخدام الأصول الروسیة.
إن عقد هذا الاجتماع فی جدة بالمملکة العربیة السعودیة مهم من أبعاد مختلفة؛ من وجهة نظر ، کان هذا الاجتماع واحدًا من المرات القلیلة التی استضافتها دولة عربیة ، والتی من المفارقات أنها واحدة من أکبر موردی احتیاجات الطاقة فی العالم ، وتوسطت بطریقة ما من أجل إنهاء محتمل لأزمة دولیة. فی الواقع ، تاریخیاً ، کانت جهود المملکة العربیة السعودیة للتدخل أو التوسط فی الحروب والصراعات فی الغالب على المستوى الإقلیمی ومقتصرة على النزاعات الداخلیة أو بین الدول العربیة ، مثل الصراع الفلسطینی الإسرائیلی، الحرب الأهلیة فی الیمن والحرب الأهلیة فی سوریا وانتقال السلطة فی العراق والأزمات السیاسیة فی لبنان. لذلک ، فإن استضافة لقاء دولی لإنهاء حرب روسیا ضد أوکرانیا ، والتی تُفسَّر على أنها نوع من الحرب بین الدول الغربیة وروسیا ، هی مثال جدید و ویدل على جهد هذه الدولة العربیة فی إبراز دورها على الساحة الدولیة. بمعنى آخر ، من خلال المفاوضات المخطط لها لهذا الاجتماع ، حاولت المملکة العربیة السعودیة إیجاد طرق لتسویة سلمیة للحرب فی أوکرانیا وکسب الفضل الدولی فی ذلک.
نقطة أخرى مهمة هی أن الاجتماع الأول حول تحقیق السلام فی أوکرانیا عقد فی کوبنهاغن ، الدنمارک ، فی یونیو 2023 ، بحضور 15 دولة ، دون ضجة إعلامیة، لکن الآن نجحت السعودیة فی الوقوف وراء القتل الوحشی لجمال خاشقجی ومحو اسمها من قائمة الدول التی تنتهک حقوق الإنسان، فی منتصف الصیف الأکثر سخونة الذی تم تسجیله فی العالم ، فی مدینة جدة الساحلیة ، ستستضیف قادة وممثلین من حوالی 40 دولة حول العالم وتعرض صورة ممثل متحالف مع المجتمع الدولی ومحب للسلام.
من ناحیة أخرى ، فإن وجود قوى غیر غربیة مؤثرة مثل الصین والهند وجنوب إفریقیا والبرازیل یحتوی أیضاً على رسالة مهمة ؛ حتى الآن ، لم تکن هذه الدول على استعداد لاتخاذ موقف صریح لدعم أحد أطراف الحرب بین روسیا وأوکرانیا وحاولت تأمین مصالحها من کلا الجانبین من خلال الحفاظ على الحیاد. وتبلغ أهمیة الحیاد بالنسبة لهذه الدول أن الصین رفضت المشارکة فی اجتماع السلام السابق الذی عقد فی الدنمارک. لکن هذا البلد نظرا لعلاقاته الطیبة مع السعودیة ، وقبل دعوة السلطات السعودیة وشارک فی اجتماع وصفته السلطات الروسیة بأنه سخیف ورفضت الحضور. لم تخلق هذه القضیة فقط فرصة للدول الغربیة للضغط على هذه القوى غیر الغربیة لاتخاذ موقف واضح، کما عزز موقف أوکرانیا وأظهر أن روایة روسیا القائلة بأن أوکرانیا مدعومة من الدول الغربیة فقط قد واجهت أیضًا بعض الشروط والأحکام.
ومن الجوانب المهمة الأخرى لاجتماع جدة رسالة هذا الاجتماع لإیران؛ من خلال عقد هذا الاجتماع ، حاولت المملکة العربیة السعودیة استعراض قوتها المناورة بین القوى الشرقیة والغربیة لإیران و وأن تظهر من موقع متفوق أنه لیس لدیها أصدقاء وأعداء دائمین ، وفی أی لحظة تتحرک اهتماماتها فی نفس الاتجاه أینما کان ، وبالطبع لدیها القدرة على اللعب فی مختلف المجالات ، لیس فقط فی على المستوى الإقلیمی ، ولکن أیضًا على الساحة الدولیة.
على الرغم من الجوانب المهمة المذکورة أعلاه ، لا بد من القول إن هوامش اجتماع جدة کانت أکثر أهمیة من نصه الرئیسی ؛ لأن الهدف النهائی لهذا الاجتماع کان الوصول إلى الحلول النهائیة لإعادة السلام إلى أوکرانیا ؛ بینما لم یکن أحد أطراف هذه الحرب ، وهو روسیا ، حاضراً فی هذا الاجتماع الدولی ، وکانت خطة السلام التی اقترحتها أوکرانیا من جانب واحد تمامًا وعکست فقط رغبات ومطالب هذا البلد. وعلى الرغم من أن السعودیة هی أیضًا من حلفاء روسیا ویمکن افتراضها ، خاصة فی اللقاءات الثنائیة التی عقدت على هامش اجتماع جدة ، کما أثیرت ودراسة شروط روسیا وطلباتها، لکن السجل التاریخی أظهر أن اللقاءات التی لا یحضر فیها سوى طرف واحد من الأطراف المعنیة ویمکنه الرهان واقتراح مطالبه ، لن تؤدی إلى سلام حقیقی وشامل ودائم. وبناءً على ذلک یمکن القول إن اجتماع جدة کان أیضاً حدثاً مهماً ، والذی للأسف لا یمکن توقع تحقیق نتائج ملموسة لتحقیق السلام.
محمد مهدی مظاهری، استاذ جامعی
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"