فی أعقاب الاضطرابات التی شهدتها کازاخستان فی أوائل العام الجدید 2022 ، والتی اندلعت الاضطرابات بسبب مضاعفة سعر الغاز الطبیعی المسال الذی تستهلکه السیارات الکازاخستانیة، مما أدى إلى مطالب اجتماعیة وسیاسیة عنیفة فی ألماتی، ولقد دعم الجارتان القویتان لکازاخستان، روسیا والصین، الحکومة فی مواجهة الاضطرابات فی العمل واللفظ. بناء على طلب الرئیس الکازاخستانی توکاییف، الذی ألقى باللوم فی الاضطرابات على الجماعات الإرهابیة، أرسل بوتین قوات ومعدات عسکریة إلى کازاخستان فی إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعی (CSTO) وبعد فترة وجیزة سیطر على الاحتجاجات وأعاد الاستقرار والهدوء لهذا البلد. وبدلاً من ذلک، راقب الرئیس الصینی تصرفات روسیا فی کازاخستان برسالة شفهیة تدعم جهود الحکومة الکازاخستانیة لقمع الاضطرابات وإدانة أی تدخل أجنبی فی خلق ثورة ملونة فی کازاخستان.
وفقًا لرئیس کازاخستان، فی قمة الصین وآسیا الوسطى، استثمرت الصین حتى الآن 40 ملیار دولار فی آسیا الوسطى، منها حوالی 20 ملیار دولار مخصصة لکازاخستان. تستثمر بکین بکثافة فی صناعات النفط والغاز والیورانیوم والنقل والعبور فی کازاخستان، وتمتلک 24 فی المائة من نفط کازاخستان و 13 فی المائة من غازها. یبلغ حجم التجارة السنویة للصین 20 ملیار دولار (11 شهرًا 2021 ، حوالی 17 ملیار دولار)، وخط أنابیب الغاز الطبیعی فی آسیا الوسطى، وخط أنابیب النفط الخام بین الصین وکازاخستان، وخط أنابیب النفط الخام الصینی الروسی یمر عبر کازاخستان وخطة "طریق واحد حزام واحد" الطموحة تمر عبر هذا البلد الشاسع وهکذا، بصرف النظر عن روسیا، التی تتمتع تقلیدیًا بمصالح سیاسیة واقتصادیة واستراتیجیة وجیوسیاسیة فی کازاخستان، فإن جارتها الشرقیة تسعى أیضًا إلى تحقیق العدید من المصالح الاقتصادیة والتجاریة فی کازاخستان. یعد الاستقرار والأمن فی کازاخستان مهمین لیس فقط من الناحیة الاقتصادیة، ولکن أیضًا بسبب قربها من منطقة شینجیانغ الویغوریة ذاتیة الحکم واحتمال انتشار الاضطرابات إلى المقاطعة التی تتعارض مع الصین. ومع ذلک، کان رد فعل بکین وموسکو مختلفًا على الاحتجاجات وانعدام الأمن فی کازاخستان، وکانت روسیا هی التی بادرت نظرًا لوجودها التقلیدی فی المنطقة وأعادت الهدوء.
لکن السؤال هو ما إذا کانت القوى الأخرى، بما فی ذلک الصین، راضیة عن تحرک روسیا لإحلال السلام فی کازاخستان؟ مع استثمار 55 ملیار دولار فی کازاخستان، أعربت الولایات المتحدة صراحة عن استیائها من الوجود الروسی فی البلاد، ومسؤول السیاسة الخارجیة بالاتحاد الأوروبی یحث على وقف التصعید لتحقیق الاستقرار فی أمن المدنیین. لکن بعد ذلک بوقت قصیر، أصدر البرلمان الأوروبی قرارًا یدعو المجتمع الدولی إلى التحقیق فی مقتل المدنیین والإبلاغ عن الأحداث فی کازاخستان، وطالب البنک الدولی وخدمة العمل الخارجی الأوروبی والبنک الأوروبی للإنشاء والتعمیر بتعلیق خططهم حتى تحسن الحکومة وضع حقوق الإنسان. یشار إلى أن الاتحاد الأوروبی استثمر حتى الآن 160 ملیار دولار فی کازاخستان.
رداً على ذلک، دعمت الصین علناً جهود الحکومة الکازاخستانیة لقمع الاحتجاجات ووجود قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعی فی البلاد، وأدان أی تدخل أجنبی فی خلق ثورة ملونة فی البلاد. وعقب موقف الصین من وجود القوات الروسیة فی کازاخستان، أعرب الکثیرون عن ارتیاح بکین للوجود الروسی فی کازاخستان لإعادة الاستقرار، وأن الصین ستقبل الاستقرار الاقتصادی فی المنطقة دون تحمل المسؤولیة عن الاستقرار الإقلیمی. فی الواقع، رسم البعض تقسیمًا غیر مکتوب للعمل الاقتصادی والأمنی للصین وروسیا فی آسیا الوسطى. لیس لدى شعوب آسیا الوسطى نظرة إیجابیة عن الصین، والنخبة الصینیة تدرک جیدًا أن الاحتجاجات الصینیة فی عام 2016 ضد شراء واستئجار الأراضی الزراعیة فی کازاخستان أدت إلى قانون یحظر بیع وتأجیر الأراضی الزراعیة إلى الصین وهو ما کان ممکنًا فی السابق. لذلک، تدرک الصین جیدًا أنه لا ینبغی لها أن تتدخل فی شؤونها العسکریة والأمنیة وأن تسعى إلى تحقیق أهدافها الاقتصادیة بسلاسة، رغم أن شعوب هذه المنطقة متشائمون أیضًا بشأن النشاط الاقتصادی للصین.
لکن هل ستقبل الصین بدور اقتصادی بحت فی المستقبل؟ الانهیار السریع لجهاز الدولة الذی یبدو قویاً فی أغنى دول آسیا الوسطى وأکثرها استقراراً وتقدماً، حیث اختفت قوات إنفاذ القانون من شوارع ألماتی فی غضون ساعات، یقوض هشاشة الأمن والاستقرار فی کازاخستان وغیرها من البلدان آسیا الوسطى. لا تقتصر المشاکل الاقتصادیة والاحتجاجات والمطالب السیاسیة وصراع النخبة فی کازاخستان على هذا البلد، ولکن دول آسیا الوسطى الأخرى لدیها أیضًا إمکانیة المعاناة من مثل هذه الاضطرابات. ومع ذلک، فی اجتماع مع خمس دول فی آسیا الوسطى للاحتفال بالذکرى الثلاثین للعلاقات الدبلوماسیة، قدم الرئیس الصینی عددًا من المقترحات فی مجالات التعاون الاقتصادی والتجاری، والنقل والطاقة، والسیاحة (إنشاء منصات سیاحیة لتعزیز السیاحة فی آسیا الوسطى)، مراقبة الحدود، إنشاء المراکز الثقافیة والعلمیة وشددت على ضرورة زیادة حجم التجارة مع دول آسیا الوسطى بمقدار 70 ملیار دولار بحلول عام 2030 وفتح حدودها أمام سلع ومنتجات آسیا الوسطى. ومع ذلک، منذ اندلاع کورونا، اقتصرت حدود الصین على دول آسیا الوسطى، ولم ینشط سوى طریق عبور الصین إلى أوروبا.
إن الوعود التی قطعها شی جین بینغ وزیارة رئیس کازاخستان توکاییف إلى الصین، والتی تمت بدعوة من رئیس الصین لحضور افتتاح دورة الألعاب الأولمبیة الشتویة فی بکین وأول رحلة خارجیة له بعد أعمال الشغب فی ألماتی، هی رسالة مفادها أن مصالح الصین ستبقى کما هی وستبقى على المدى القصیر. على الرغم من القلق من الاضطرابات فی کازاخستان بالنسبة للصین، تصر بکین على مواصلة الاستثمار وتوسیع التجارة مع آسیا الوسطى. تنبع هذه الاستراتیجیة من سیاستین صینیتین: أولاً، تعتقد الصین أنه من خلال مساعدة بلدان آسیا الوسطى وزیادة التجارة والاستثمار، فإنها لا تتابع مصالحها التجاریة والاقتصادیة فحسب، بل یساهم فی التنمیة الاقتصادیة وتقدم هذه الدول، کما تقلل من استیاء الناس من حکوماتهم، وبالتالی یساهم فی الاستقرار والأمن. یمکن أیضًا تعمیم هذه السیاسة لمنع التطرف وتهریب المخدرات والعملیات الإرهابیة. فی الصین، یؤمن الکثیر من الأشخاص الذین ینضمون إلى الجماعات الإرهابیة والمتطرفین ومهربی المخدرات بالاستیاء الاقتصادی والظلم الاجتماعی، وهو ما تؤمن به بکین فی إقلیم شینجیانغ المتاخم لآسیا الوسطى. السیاسة الثانیة هی النظر إلى روسیا کضامن للأمن فی آسیا الوسطى، وخاصة کازاخستان. على المدى القصیر أو المتوسط، لا یمکن للصین أن تلعب دورًا فی أمن آسیا الوسطى وسیتعین علیها التحرک فی اتجاه الأمن الجدید الذی سیظهر بعد التطورات الأخیرة فی المنطقة.
سمیة مختاری، خبیر فی قضایا أوراسیا
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"