کان نظام العقوبات المعقد والمتشابک ضد جمهوریة إیران الإسلامیة، خاصة خلال العقد الماضی، مثالًا واضحًا على تصمیم نظام قانونی شامل لتنفیذ الأهداف العدائیة للسیاسة الخارجیة الأمریکیة. فی وقت تکون فیه العلاقات بین البلدین فی حالة "لا حرب ولا تفاوض"؛ الولایات المتحدة تنشر بشکل أعمى نظام العقوبات الأحادی الجانب؛ العقوبات التی هی عملیاً جزء من آلیة الحرب القانونیة1 ضد إیران. فی السنوات الأخیرة، شهدنا بشکل متزاید أن تصبح "الحقوق" أداة قویة للحرب2 ضد الأعداء، وخاصة من قبل القوى العظمى. إذا کان من الممکن فی الماضی اتباع سیاسة خارجیة من خلال الحرب وفرضها على خصم من خلال الحرب، فقد حلت الحقوق الآن، فی کثیر من الحالات، حلت الحقوق محل الحرب (أو انحازت معها على الأقل). ویتم تنفیذ أهداف السیاسة الخارجیة من خلال الوسائل القانونیة فی البلدان المستهدفة. فی مواجهة مثل هذه الاستراتیجیة، حاولت جمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، باستخدام أدواتها المشروعة فی المنظمات الدولیة والسلطات القضائیة3، التحدی العداء الأمریکی من خلال الوسائل القانونیة الدولیة.
محکمة العدل الدولیة4 حکمت فی 3 فبرایر 2021، فی قضیة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ضد الولایات المتحدة لانتهاک اتفاقیة مودة والعلاقات الاقتصادیة والحقوق القنصلیة5 عام 1334. یعتبر حکم المحکمة6 الأخیر انتصارًا قانونیًا أولیًا على الحملة القانونیة الأمریکیة.
من خلال اختصاصها7 فی هذه القضیة، تدخل المحکمة رسمیًا مرحلة النظر الموضوعی8 فی شکوى إیران ضد الولایات المتحدة بسبب "إعادة9 فرض عقوبات اقتصادیة10 أحادیة الجانب وتشدید الإجراءات التقییدیة11 ضد الحکومة والمواطنین12 والشرکات الإیرانیة13 وتناقضها مع أحکام معاهدة 1334 بین البلدین". ووفرت فرصة للوثائق القانونیة والحجج المتعلقة بالأضرار14 العدیدة التی لحقت بالشعب الإیرانی نتیجة التطبیق الأحادی الجانب للعقوبات فی محکمة دولیة اعتباراً من 8 مایو 2018 فصاعدًا.
محکمة العدل الدولیة هی محکمة دولیة وإحدى الرکائز الأساسیة للأمم المتحدة، ومقرها لاهای فی هولندا، وتتألف من 15 قاضیاً، وتکون "آراء الدعویة15" ملزمة16 قانونًا لأطراف القضیة. فی حکم صدر مؤخرًا، رفضت المحکمة جمیع الإعتراضات الأولیة18 للولایات المتحدة على شکوى إیران بالإجماع أو بالأغلبیة، وأعلنت أنها مخولة17 للنظر فی القضیة من حیث الأسس الموضوعیة. هذا هو الإنتصار القانونی الثانی لإیران فی هذه القضیة منذ صدور الأمر المؤقت للمحکمة فی 3 أکتوبر 1397 (3 أکتوبر 2018)19. کان الأمر المؤقت بمثابة مخاوف الحکومة الإیرانیة من الآثار اللاإنسانیة والتی لا رجعة فیها للعقوبات، ودعا الولایات المتحدة إلى إزالة الحواجز فورًا اعتبارًا من 8 مایو 2018، والتی تعرقل استیراد المواد الإنسانیة إلى إیران، بما فی ذلک الأدویة والإمدادات الطبیة20. المنتجات الغذائیة والزراعیة21 وقطع الغیار والمعدات والخدمات اللازمة لسلامة الطیران الوطنی22. على الرغم من أن محتوى الأمر المؤقت لم یتم تنفیذه بالکامل من قبل الولایات المتحدة، ولکن کما هو مذکور فی الاختصاص القضائی، فإن المحکمة ملتزمة بمعالجة قضیة عدم امتثال الولایات المتحدة للأمر المؤقت أثناء الإجراءات الموضوعیة.
ومع ذلک، فإن موضوع شکوى إیران لا یقتصر على العقوبات المتعلقة بالمواد الإنسانیة، وقدمت الحکومة الإیرانیة إلى المحکمة سلسلة من العقوبات الاقتصادیة أحادیة الجانب وغیرها من الإجراءات التقییدیة ضد الحکومة الإیرانیة وشعبها وشرکاتها لخرقها أحکام اتفاقیة 1334. وفرضت هذه العقوبات على بلادنا بموجب القرار التنفیذی الصادر فی 18 مایو 2018، دونالد ترامب، الرئیس السابق للولایات المتحدة، وانسحاب تلک الدولة من اتفاقیة برجام. ودفعت هذه المسألة الولایات المتحدة إلى الادعاء خطأ فی اعتراضاتها الأولیة بأن شکوى إیران لها أساس سلیم ولیس لها علاقة بالاتفاقیة الثنائیة بین البلدین. ورفضت المحکمة الاعتراض بالإجماع. عند مراجعة مطالب الولایات المتحدة، تذکر محکمة العدل الدولیة، مستشهدة بممارستها السابقة، أن تحدید "موضوع النزاع"23 کجزء من "الوظیفة القضائیة"24 للمحکمة ینبغی أن یکون من قبل المحکمة نفسها من خلال النظر فی تصریحات الأطراف وتفسیرها. تحدد المحکمة موضوع النزاع على "أساس موضوعی"25 وفی نفس الوقت تولی اهتمامًا خاصًا "لصیاغة النزاع من قبل المدعی".26 (الفقرات 51 إلى 53 صوتا)
تلاحظ المحکمة أیضًا أنّ إرتباط هذا النزاع بالإجراءات الأمریکیة فی عدم تنفیذ اتفاقیة برجام نفسها لا یمکن أن یکون عقبة أمام ربط النزاع بتفسیر27 وتنفیذ28 اتفاقیة مودّة29، حیث یمکن ربط أی إجراء بعدة وثائق وتنفیذها وتفسیرها فی نفس الوقت. لذلک، تلاحظ المحکمة أنه حتى إذا أدت نتیجة حکم محتمل من قبل هذه المحکمة لدعم مطالبات إیران إلى إعادة الوضع إلى حالة تنفذ فیها الولایات المتحدة اتفاقیة برجام، فإنّ هذا لا یعنی أن النزاع متعلق باتفاقیة برجام ولیس معاهدة مودّة. (أصوات المادة 56)30
تحتوی معاهدة مودّة على التزامات لحمایة مواطنی وشرکات الحکومتین فی مجالات الإستیراد والتصدیر، والتحویلات المالیة، واحترام الحقوق والمزایا المکتسبة، وحظر السلوک التمییزی، فضلاً عن حریة التجارة. وبناءً على ذلک، جادل محامون أمریکیون بأنه حتى لو استند ادعاء إیران إلى معاهدة مودّة (ولیس اتفاقیة برجام)، فإن الإجراءات التی استشهدت بها إیران لا تتعلق أساسًا بالعقوبات الأمریکیة، وفی الواقع، تتعلق "بأفعال طرف ثالث"31 ، لذلک، یتم استبعادها من مدى32 معاهدة مودّة ولیس للمحکمة اختصاص علیها33. کان رد المحکمة على اعتراض الولایات المتحدة أیضًا رفضًا مدویًا. من وجهة نظر المحکمة، فإنّ مجرّد حقیقة أن بعض هذه الإجراءات، أو کما تدعی الولایات المتحدة، استهدفت "الغالبیة العظمى منهم34، أفرادًا ورعایا دول أخرى، لا یکفی لإزالة هذه الإجراءات من المعاهدة (المادة 81 من الحکم)، "فقط من خلال" الفحص الدقیق لکل من الإجراءات المعنیة ونطاقها وآثارها الفعلیة "یمکن التأکد مما إذا کانت هذه الإجراءات قد أثرت على التزامات حکومة الولایات المتحدة بموجب معاهدة مودّة35. وبالتالی، فإن الاعتراض الابتدائی الثانی للولایات المتحدة یثیر مسائل تتعلق بطبیعة النزاع بین أطراف النزاع، والتی ستنظر فیها المحکمة فی المرحلة الموضوعیة. وبناءً على ذلک، لا یمکن حتى للقاضی المعین من قبل الولایات المتحدة الإکتفاء بحجج المحامین الأمریکیین ورفض الاعتراضات الأولیة الأمریکیة على مرحلة الإختصاص القضائی.
بالإضافة إلى الإعتراضات السابقة، کانت محاولة المدّعین الأمریکیین فی جلسة الإستماع الأولیة للمحکمة هی استخدام الإستثناءات الواردة فی فقرة 1 المادة 20 36 من معاهدة مودّة فیما یتعلق بمواد الإنشطاریة37 والمصالح الأمنیة38 الأمریکیة کأساس لتبریر عقوباتهم وطلبوا من المحکمة فی هذه المرحلة من الجلسة أن تحکم فی عدم کفاءتها فی هذه المرحلة من الإجراءات. تمّ عرض مجموعة من التهم المتعلقة بالأنشطة النوویة للجمهوریة الإسلامیة وما تصفه الولایات المتحدة بأنشطة إیران المزعزعة للإستقرار والإرهاب أمام المحکمة، حتى یتمکن القضاة من استنتاج أن العقوبات الأمریکیة لیست استثناءً للمادة 20 من الإتفاقیة ولم تنتهک إلتزامات تلک الحکومة التعاهدیة. رفض قضاة المحکمة الحجة المتعلقة بالمواد الإنشطاریة والمشعة ومنتجاتها بأغلبیة 15 صوتًا مقابل صوت واحد (بواسطة قاض أمریکی خاص)، وتمّ بالإجماع رفض الإعتراض على استبعاد الإجراءات المتعلقة بالمصالح الأمنیة الأمریکیة الأساسیة. کما أجّلت المحکمة النظر فی هذه الإدعاءات إلى مرحلة موضوعیة وخلصت إلى أنّ أیاً من الإعتراضات المذکورة أعلاه لا یمنع المحکمة من أن یکون لها اختصاص للنظر فی القضیة.
لا ترید الحکومة، التی تقدم اعتراضات أولیة إلى المحکمة، منع إصدار حکم بشأن طبیعة النزاع فحسب، بل تسعى أیضًا إلى منع مناقشة النزاع فی سیاق قانونی. وعلیه، یبدو أن استراتیجیة الولایات المتحدة فی مناقشة العقوبات هی تحویل الخلافات القانونیة مع إیران إلى قضیة سیاسیة، وبالتالی تمیل إلى المساومة فی أحسن الأحوال فی سیاق سیاسی بدلاً من مناقشة شرعیة أو عدم شرعیة أفعالها. لدفع الکفالة الدبلوماسیة. ووفقًا للولایات المتحدة، حیث تکون القضیة قانونیة، تعمل رافعات القوة بطریقة غیر متجانسة، وتوازن میزان القوى بین الولایات المتحدة والدولة المعادیة لصالح الطرف الآخر. هذا هو بالضبط الدافع الرئیسی للولایات المتحدة الذی دفعها إلى استخدام الحقوق لیس کأداة لتحقیق العدالة ولکن کأداة لدفع سیاستها الخارجیة وتعزیزها.
ونتیجة لهذا النهج المزدوج فی التعامل مع القانون، تسعى الولایات المتحدة، من ناحیة، إلى فرض عقوبات أحادیة الجانب بزی قانونی، ومن ناحیة أخرى، منع أی تقییم قانونی لشرعیتها أمام محکمة دولیة، لأنها ترى القانون الدولی فی المقام الأول کأداة متعددة الأطراف تضیق فی بعض الحالات مساحة الأحادیة وتزعزع میزان القوى لصالح الدول الأضعف. لذا، یبقى أن نرى کیف ستستجیب الإدارة الأمریکیة الجدیدة، التی عملت تحت شعار التعددیة واحترام الآلیات والمؤسسات الدولیة، لقضیة انتهاکات مذکرة التفاهم وشکوى إیران إلى المحکمة. یعتقد البعض أن ترکیز إیران على هذه القضیة والنهوض بالقضیة فی المرحلة الموضوعیة سیؤدی إلى إجبار إدارة بایدن، على الرغم من معارضتها لسیاسات إدارة ترامب بشأن العقوبات والإنسحاب من اتفاقیة برجام39، فی وضع یمکنها من فرض عقوبات علی الدفاع عن محکمة العدل الدولیة. تبنی مثل هذه السیاسة قد یؤدی إلى تضارب بین المقاربات السیاسیة والقانونیة للإدارة الأمریکیة الجدیدة فی مسألة العقوبات. بالطبع، یحتاج تقییم هذا التحلیل إلى مزید من التحقیق والاختبار، لکن فرضیته هی أن أساس شکوى إیران ضد الولایات المتحدة فی المحکمة هو نفسه مع برجام والمفاوضات النوویة. ووفقاً لکاتب المقال، فإن اتخاذ مثل هذا الموقف یمکن أن یضعف الموقف القانونی لإیران فی هذه القضیة.
غالبًا ما یُفترض أن القانون هو أداة ودعم للسیاسة، وأنّه حیثما تتطلب الدبلوماسیة حلاً أو فتحه، یجب إنفاق الحقوق لصالح الدبلوماسیة. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بین القانون والسیاسة أکثر تعقیدًا من الإفتراضات المطلقة المحددة سلفًا، وفی بعض الحالات تکون العکس تمامًا، تتطلب السیاسة أن تدعم الدبلوماسیة تحویل الخلافات السیاسیة إلى نزاعات قانونیة. یرتبط القانون إرتباطًا دلالیًا بمفهوم العدالة، ویتضمن توفیر العدالة التعویض عن الماضی والحاضر وضمانات ملزمة للمستقبل. ترتبط الدبلوماسیة بمفهوم السلام من الناحیة المفهومیة أکثر من ارتباطها بالعدالة، وهی تتعلق فی المقام الأول بالمستقبل. فی هذاالصدد، تجد الحکومات الحافز لرفع دعوى قضائیة ومتابعتها فی المحاکم والمؤسسات الدولیة، والسعی للحصول على إجراءات قانونیة وتعویض (إن أمکن) عن الإنتهاکات التی حدثت فی الماضی والتی قد یکون لها تداعیات.
إنتصار إیران الأولی فی محکمة العدل الدولیة مؤشر واضح على توازن القوى فی العلاقات الدولیة، والذی لا یمکن تحقیقه إلا من خلال مشاریع قوانین المحامین والخطب القانونیة أمام المحکمة. وطالما استمرت الحرب القانونیة للولایات المتحدة ضد إیران، جنبًا إلى جنب مع الجهود المحلیة لنزع فتیل العقوبات، یجب تطویر استراتیجیة دفاع تستند إلى قواعد القانون الدولی. على الرغم من أن مصالح الدول یمکن أن تکون موضوعًا للقانون والدبلوماسیة، فإن فصلها الأساسی عن بعضها البعض یمکن أن یحافظ على کلا الرافعتین للمصلحة الوطنیة، بطریقة ما، تؤجل الدبلوماسیة أحیانًا قضایا العدالة إلى الإجراءات القانونیة فی المؤسسات المحایدة وتقلل بشکل کبیر من اشتعال القضایا الخلافیة أو القوة الأحادیة الجانب. من هذه الرؤیة، یخدم القانون والدبلوماسیة السیاسة بالمعنى العام للکلمة، ویمکن للسیاسة استخدام کلیهما لتحقیق العدالة والسلام بطریقة متوازنة.
سهیل غولتشین، باحث فی دراسات القانون الدولی
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"