الشهرین الأخیرین من عام 2020 صادف إحیاء الذکرى السنویة الخامسة والعشرین لإتفاق دایتون للسلام الذی أنهى الحرب الدمویة فی البوسنة والهرسک (1995-1992)، وأقیمت عدة فعالیات فی البوسنة والهرسک وبلدان أخرى بهذه المناسبة، وقد أعربت شخصیات مختلفة عن مواقفهم فی هذا الصدد، بما فی ذلک رسالة الرئیس الأمریکی المنتخب جو بایدن، والرئیس الأمریکی السابق بیل کلینتون، والأمین العام للأمم المتحدة، والأمین العام لحلف الناتو، والرئیس الترکی، ووزیرا الخارجیة الروسیة والبریطانیة، ومنسق السیاسة الخارجیة والأمنیة فی الإتحاد الأوروبی والمسؤول عن شوؤون تنمیة الإتحاد الأوروبی.
فی هذا الصدد، یحاول المقال التالی دراسة بعض الإنجازات والتحدیات التی جلبتها هذه الإتفاقیة للمجتمع البوسنی فی الربع الأخیر من القرن.
1- نهایة الحرب وإراقة الدماء
کان أهم إنجاز لإتفاق دایتون هو نهایة حرب استمرت أربع سنوات وأسفرت عن مقتل أکثر من 100 ألف شخص.
- الحفاظ على وحدة أراضی البوسنة والهرسک
وفقًا لدستور عام 1974 لیوغوسلافیا السابقة، کانت البوسنة والهرسک إحدى الجمهوریات التی تتمتع بالحق فی الإستقلال. وبالتالی، فإنّ أحد إنجازات دایتون هو الحفاظ على وحدة أراضیها، حیث أنّ حدودها الحالیة هی نفس المنطقة الجغرافیة للبوسنة والهرسک فی یوغوسلافیا السابقة.
3- العودة مجموعة من النازحین
کان التطهیر العرقی أحد أهداف المتطرفین الصرب فی الأراضی الواقعة تحت سیطرتهم، وکان أحد أهداف إتفاقیة دایتون هو تمکین عودة النازحین إلى دیارهم فی فترة ما قبل الحرب. على الرغم من أنّه لأسباب إقتصادیة وأمنیة وإجتماعیة مختلفة، فإن تحقیق هذا الهدف ما زال بعیدًا عن الوصول إلى المستوى المطلوب ، لکن عودة بعض النازحین یمکن اعتبارها أثرًا إیجابیًا لإتفاقیة دایتون.
4- المحاکمة والعقاب لعدد من مجرمی الحرب
بعد اتفاقیة دایتون للسلام، تمّ إنشاء المحکمة الجنائیة الدولیة لیوغوسلافیا السابقة (ICTY) وحوکم عدد من مجرمی الحرب وحکم علیهم بالسجن المؤبد أو بالسجن لفترات طویلة.
1- خلق هیکل سیاسی غیر تقلیدی یفتقد إلى الکفاءة اللازمة
قسّمت اتفاقیة دایتون البلاد فعلیًا إلى کیانین (Entity)، بما فی ذلک جمهوریة صربسکا (Srpska) واتحاد البوسنة والهرسک، لکل منهما هیکله القانونی والإداری الخاص به. على المستوى الوطنی، تمّ تشکیل مجلس رئاسی من ثلاثة أعضاء- یتألف من ممثلین عن الجماعات العرقیة الثلاث للبوشناق والصرب والکروات، مع إمکانیة نقض قرارات کل من الأعضاء الثلاثة وإحالتها إلى البرلمان المحتج والذی بطبیعة الحال یواجه مأزقاً فی العدید من القضایا. تقسیم المناصب فی مجلس الوزراء هو مظهر آخر من مظاهر توزیع السلطة على أساس العرق، والتی تواجه بطبیعة الحال مشاکل کبیرة بسبب تضارب مصالح القبائل، فی اتخاذ القرارات وتنفیذها فی کثیر من الحالات.
2- فشل "التأمیم"
إن تعزیز الحدود العرقیة فی هیکل دایتون لم ینجح فقط فی دمج المجموعات العرقیة الثلاث وتطویر عملیة بناء الأمة (Nation Building)، بل زاد من حدة اختلافاتهم فی بعض الحالات.
3- الوجود والتفوق المؤسسی للقوى السیاسیة والعسکریة والقضائیة الأجنبیة
إنّ وجود وهیمنة القوى السیاسیة والعسکریة والقضائیة الأجنبیة، التی تأسست بموجب إتفاقیة دایتون، قد خلق نوعًا من الحمایة شبه الدولیة (semi-international protectorate) للبوسنة والهرسک.
أ) الممثل الأعلى للمجتمع الدولی: تشرف هذه الوکالة على تنفیذ إتفاقیات دایتون للسلام وتلعب دوراً فعالاً فی تنفیذ الشؤون المدنیة لهذه الاتفاقیة.
وتجدر الإشارة إلى أنه فی السنوات الأخیرة، عارض الصرب، بدعم من روسیا، استمرار عمل الممثل السامی ودعوا مرارًا إلى إغلاق هذا المکتب التمثیلی.
ب) القوات العسکریة الأجنبیة
تدین البوسنة والهرسک بجزء من أمنها خلال ربع القرن الماضی إلى القوات الأجنبیة، أولاً فی شکل إیفور(Ifor)، ثم فی سفور(sfor)، ومنذ عام 2004 فی شکل یوفور(Eufor). وتتمثل مهمة هذه القوات المتعددة الجنسیات فی الحفاظ على القدرة اللازمة للإستجابة لأی تحد أمنی فی جمیع أنحاء البوسنة والهرسک. بالطبع، مع مرور الوقت، انخفض عدد هذه القوات.
ج) القضاة الأجانب
فی النظام القضائی للبوسنة والهرسک، توجد محکمة دستوریة تتکون من 2 بوسنی، 2 صرب، 2 کروات و 3 قضاة معینین من قبل المحکمة الأوروبیة لحقوق الإنسان، ولا ینبغی انتخاب القضاة الثلاثة الآخرین من بین المواطنین البوسنیین أو الدول المجاورة.
4-نمو المیول الإنفصالیة والمزاعم المناهضة لدایتون
أدى عدم کفاءة النظام السیاسی للبوسنة والهرسک واستمرار الصراع العرقی إلى زیادة النزعات الإنفصالیة والمطالب المخالفة لإتفاقیة دایتون فی السنوات الأخیرة، ومثال على ذلک التصریحات المتکررة للعضو الصربی فی المجلس الرئاسی للبوسنة والهرسک میلوراد دودیک (Milorad Dodik)، الذی یتحدث کل بضعة أیام عن ضرورة تقسیم بلاده!
5- وجود لقوى الأجنبیة وتنافسها على الصعیدین الإقلیمی والعالمی
علاقات الخاصة للدول المجاورة للبوسنة مثل صربیا وکرواتیا مع المجموعات العرقیة ذات الصلة، والتی تم الاعتراف بها فی اتفاقیة دایتون، والعدید من صرب البوسنة، من حیث المبدأ، مواطنون مزدوجون فی صربیا، ویحمل الکروات أیضًا الجنسیة الکرواتیة.
من بین القوى العالمیة العظمى، تتمتع الولایات المتحدة بأهم وجود فی البوسنة. جدیر بالذکر أنه خلال رئاسة دونالد ترامب، کان بعض القادة البوسنیین قلقین من حدوث تغییر فی مواقف الولایات المتحدة تجاه بلادهم، نظرًا لعدم القدرة على التنبؤ بشخصیة ترامب، والعلاقة الخاصة بین ترامب وبوتین، وعداء ترامب لإرث الدیمقراطیین بما فی ذلک اتفاقیة دایتون للسلام، کان القلق من حدوث تغییر مفاجئ فی سیاسة الولایات المتحدة تجاه البوسنة، ولکن مع انتخاب بایدن، زادت الثقة فی استمرار السیاسات الأمریکیة السابقة.
روسیا هی قوة عالمیة أخرى لها وجود نشط کحلیف تقلیدی وداعم للصرب فی غرب البلقان والبوسنة والهرسک.، کما یتضح من علاقات دودیک الوثیقة مع بوتین.
ولدى ألمانیا وبریطانیا وفرنسا وإیطالیا والنمسا أیضًا حضور نشط فی البوسنة، ومن الواضح توسع الوجود الإقتصادی للصین فی البوسنة والبلقان.
ترکیا من بین الدول الإسلامیة، ترکیا، التی کانت موجودة فی المنطقة منذ الإمبراطوریة العثمانیة، لها نفوذ بارز. الأنشطة المختلفة للمؤسسات التابعة لترکیا، والربط الهیکلی بین الجمعیة الإسلامیة للبوسنة والهرسک والمنظمة الدینیة الترکیة، ومنح امتیازات اقتصادیة فی مجال المنتجات الزراعیة وشراء المواشی للبوسنة ووجود عدد کبیر عدد الجنود الأتراک فی أوفور دلیل على ذلک.
کما استثمرت المملکة العربیة السعودیة فی البوسنة والهرسک فی المجالات الإقتصادیة والثقافیة، ویعتبر مسجد والمرکز الثقافی "فهد" فی سراییفو وبعض المراکز التجاریة والسیاحیة الرئیسیة فی المدینة رمزاً لوجودهم ، وتعتبر قطر والکویت من بین الدول العربیة الأخرى التی لها وجود کبیر فی البوسنة.
جمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، التی لعبت خلال الحرب، بفضل دعمها الشجاع والسخی والشامل، دورًا فریدًا فی دعم مسلمی البوسنة المضطهدین وبقاء هذا البلد، نشطت فی المجالین السیاسی والثقافی فی السنوات الأخیرة. وتقدم العدید من المعاهد التعلیمیة والبحثیة التابعة لبلدنا خدمات ثقافیة لشعب البوسنة والهرسک.
6- العقبات أمام انضمام البوسنة إلى الإتحاد الأوروبی وحلف شمال الأطلسی
على الرغم من أن هناک إجماع واضح بین المجموعات العرقیة الثلاث فی البوسنة حول انضمام البلاد إلى الإتحاد الأوروبی لکن، أدّت المشاکل والعقبات الهیکلیة والإقتصادیة والقضائیة والعسکریة وغیرها إلى إبطاء الحرکة فی هذا الإتجاه.
کانت عضویة البوسنة فی الناتو قضیة خلافیة فی السنوات الأخیرة، حیث یعارض الصرب العضویة، وبشکل عام، یبدو أنه طالما کانت هناک مواجهة فی العلاقات بین روسیا والناتو ولم تنضم صربیا إلى الناتو، فإن البوسنة والهرسک ستستمر فی عرقلة إنضمام الصرب إلى الناتو.
7- الأزمات الإقتصادیة والإجتماعیة
لا تزال البوسنة والهرسک تعانی من عدد من الأزمات الإقتصادیة والإجتماعیة بعد 25 عامًا من اتفاقیة دایتون، بما فی ذلک نقص الإستثمار فی مشاریع البنیة التحتیة، وهجرة الشباب والعمال المهرة، وارتفاع معدل البطالة.
تجدر الإشارة إلى أنه حسب إحصاء عام 2013، بلغ عدد سکان البوسنة والهرسک 3531159 نسمة، وهو ما یمثل انخفاضًا بأکثر من 800 ألف مقارنة بإحصاء عام 1991، ویبدو أن هذا الإتجاه التنازلی قد ازداد فی السنوات السبع الماضیة.
خاتمة:
تُظهر التحدیات التی ظهرت منذ ربع قرن بعد تنفیذ اتفاقیات دایتون فی البوسنة والهرسک، والتی حالت دون ظهور دولة قومیة وفقًا للمعاییر التقلیدیة، أنه إذا لم یتم التحکم فی الانقسامات الهویة والعرقیة، وکذلک الإختلافات السیاسیة والثقافیة فی المجتمع والتباعد والمواجهة یحل محل التقارب والتفاعل، فلن تکون النتیجة فقط الأحداث المریرة والدمویة، ولکن حتى بعد إحلال السلام ومرور أکثر من عقدین من الزمن، سیکون لها آثار مدمرة تؤدی إلى ضیاع الکثیر من فرص التنمیة والتقدم وزیادة جشع وتأثیر القوى الخارجیة.
محمود حیدری، خبیر أول فی مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"