إنشاء أکبر منطقة تجارة حرة فی العالم بعنوان "الشراکة الإقتصادیة الإقلیمیة الشاملة" (RCEP)

خمسة عشر دولة فی منطقة آسیا والمحیط الهادئ تشمل الدول الأعضاء فی الآسیان (مالیزیا وإندونیسیا وسنغافورة وتایلاند والفلبین وفیتنام وبرونای وکمبودیا ومیانمار ولاوس) وخمس دول أخرى فی منطقة آسیا والمحیط الهادئ (الصین والیابان وکوریا الجنوبیة، أسترالیا ونیوزیلندا)، بعد ثمانی سنوات من المفاوضات المستمرة، وقعوا أخیرًا معاهدة إنشاء أکبر منطقة تجارة حرة فی العالم بعنوان الشراکة الاقتصادیة الإقلیمیة الشاملة، فی قمّة الدول المذکورة التی استضافتها فیتنام، والتی عقدت على الإنترنت فی‌هانوی فی ۱۶ نوفمبر ۲۰۲۰. من المتوقع أن یتم تنفیذ المعاهدة بعد ۶۰ یومًا من تصدیقها من قبل ست دول أعضاء على الأقل فی الآسیان وثلاث دول غیر أعضاء فی الآسیان.
7 جمادى الثانية 1442
رویت 2034
حسین ملاعبداللهی

خمسة عشر دولة فی منطقة آسیا والمحیط الهادئ تشمل الدول الأعضاء فی الآسیان (مالیزیا وإندونیسیا وسنغافورة وتایلاند والفلبین وفیتنام وبرونای وکمبودیا ومیانمار ولاوس) وخمس دول أخرى فی منطقة آسیا والمحیط الهادئ (الصین والیابان وکوریا الجنوبیة، أسترالیا ونیوزیلندا)، بعد ثمانی سنوات من المفاوضات المستمرة، وقعوا أخیرًا معاهدة إنشاء أکبر منطقة تجارة حرة فی العالم بعنوان الشراکة الاقتصادیة الإقلیمیة الشاملة، فی قمّة الدول المذکورة التی استضافتها فیتنام، والتی عقدت على الإنترنت فی‌هانوی فی 16 نوفمبر 2020. من المتوقع أن یتم تنفیذ المعاهدة بعد 60 یومًا من تصدیقها من قبل ست دول أعضاء على الأقل فی الآسیان وثلاث دول غیر أعضاء فی الآسیان.

 

یبلغ عدد سکان الدول الموقّعة على المعاهدة 2.2 ملیار نسمة، ویبلغ الناتج المحلی الإجمالی 26 تریلیون دولار أمریکی، وهو ما یمثّل ما یقرب من ثلث سکان العالم وحوالی ثلث الناتج المحلی الإجمالی فی العالم. یبلغ عدد سکان الإتفاقیة التجاریة الباسیفیکی (Trans-Pacific Partnership‎) 793 ملیون نسمة ویمثلون 26 بالمائة من التجارة العالمیة. کما أن عدد سکان اتفاقیة شراکة شاملة ورائدة عبر المحیط الهادئ (Comprehensive and Progressive Agreement for Trans-Pacific Partnership) یبلغ 495 ملیون نسمة وتمثل ثلاثة عشر ونصف بالمائة من الناتج المحلی الإجمالی العالمی. وبالتالی، تعد إتفاقیة الشراکة الإقتصادیة الإقلیمیة الشاملة أکبر منطقة تجارة حرة فی العالم، مقارنة بمناطق التجارة الکبیرة المذکورة أعلاه. لهذا السبب، یعد توقیع هذه الإتفاقیة خطوة حاسمة وهامة فی التطورات المستقبلیة للإقتصاد والتجارة العالمیین، ومن المتوقع أن یغیر إتجاه التجارة العالمیة تدریجیاً نحو آسیا وأوقیانوسیا.

تم تقدیم اقتراح "الشراکة الإقتصادیة الإقلیمیة الشاملة" لأول مرة من قبل إندونیسیا فی 14 نوفمبر 2011 فی قمة الآسیان فی بالی. بدأت المفاوضات حوله رسمیًا من قبل الدول الأعضاء فی 18 نوفمبر 2012 فی قمة الآسیان فی بنوم بن عاصمة کمبودیا. عشر دول أعضاء فی الآسیان، إلى جانب ست دول بما فی ذلک الصین والیابان وکوریا الجنوبیة والهند وأسترالیا ونیوزیلندا، من نوفمبر 2012 إلى 9 یولیو 2020 أجروا المشاورات اللازمة لمدة ثمانی سنوات متتالیة حول کیفیة صیاغة وتنظیم الآلیات واللوائح المتعلقة بإنشاء منطقة تجاریة حرة فی إطار اتفاقیة "الشراکة الاقتصادیة الإقلیمیة الشاملة"، من خلال عقد 31 جولة من المفاوضات المکثفة والمنتظمة والدوریة.

 من الجدیر بالذکر أن الهند انسحبت من قمة الآسیان + 3 فی 4 نوفمبر 2019 وأنهت وجودها الذی دام سبع سنوات فی المفاوضات ذات الصلة. وقالت نیودلهی إنّ سبب الإنسحاب من الإتفاقیة هو "الآثار السلبیة للرسوم الجمرکیة المنخفضة على المنتجین الهنود المحلیین، وکذلک الإستفادة الأکبر للصین من الإتفاقیة". رداً على انسحاب الهند، دعت الیابان والصین قادة دلهی إلى إعادة النظر فی قرارهم والإنضمام إلى المعاهدة.

تعد معاهدة "الشراکة الإقتصادیة الإقلیمیة الشاملة" حجر الزاویة لأکبر منطقة تجارة حرة فی العالم، وهی مزیج متنوع من دول آسیا والمحیط الهادئ مع ثلاث مجموعات من الإقتصادات "المتقدمة" (الیابان وکوریا الجنوبیة وسنغافورة ومالیزیا والصین وأسترالیا ونیوزیلندا). و"النامیة" (إندونیسیا وتایلاند وفیتنام والفلبین وبرونای) و "المتخلفة" (کمبودیا ولاوس ومیانمار). إقترب إجمالی التجارة للدول الأعضاء الخمسة عشر فی عام 2019 من 2.3 تریلیون دولار، وبلغ إجمالی التجارة العالمیة 7 تریلیون دولار، وهو ما یمثل 27 ٪ من إجمالی التجارة العالمیة.

تتمثل الأهداف الرئیسیة للدول الأعضاء فی الإنضمام إلى هذه المعاهدة فی إنشاء منطقة تجارة حرة عن طریق خفض التعریفات التجاریة بین الأعضاء، وتشجیع الاستثمار لمساعدة الإقتصادات الناشئة فی الدول الأعضاء، وتحسین العلاقات الاستراتیجیة مع بعضها البعض وتعزیزها. وبموجب هذه الإتفاقیة، سیتم تنفیذ التخفیض ثم إلغاء التعریفات التجاریة للمنتجات الصناعیة والزراعیة بین الأعضاء فی فترتین: قصیر الأجل (سنتان) وطویل الأجل (عشرین عامًا). من المقرر أن یلغی أعضاء المعاهدة حوالی 90 فی المائة من تعریفات الإستیراد الخاصة بهم وخفضها إلى الصفر على مدى فترة طویلة تبلغ 20 عامًا.

المعاهدة تضع قواعد تجاریة جدیدة، من أهمها توحید "قوانین المنشأ". یبسط القانون سلاسل التورید الإقلیمیة والعالمیة للشرکات، بالإضافة إلى خفض التکالیف والوقت المرتبط بالتصدیر فی جمیع أنحاء المنطقة، فهو یجعل من الممکن أیضًا جذب المزید من الإستثمار الأجنبی المباشر. خفض تکالیف الشرکات من خلال تسهیل تصدیر منتجاتها إلى أی مکان فی الدول الأعضاء، دون تلبیة متطلبات کل دولة، وزیادة الشفافیة، وتبادل المعلومات، وتسهیل التجارة، وتبسیط التعاون الإقتصادی، وتوحید قوانین التجارة الإلکترونیة الدولیة والإعتراف المتبادل للمعاییر الدولیة هی من بین الفوائد الأخرى لهذه الإتفاقیة التجاریة.

على الرغم من أنّ هذه هی أول إتفاقیة تجارة حرّة تضم لأول مرة أکبر ثلاثة إقتصادات فی آسیا (الصین والیابان وکوریا الجنوبیة) وهی من الإقتصادات الأربعة الأولى فی هذه القارة الشاسعة، إلا أن الصین بلا شک فی وضع أفضل بالنسبة للأعضاء الآخرین باعتبارها ثانی أکبر إقتصاد فی العالم، لتشکیل القوانین التجاریة للمنطقة؛ لأن الصین حالیاً شریک تجاری رئیسی لمعظم الإقتصادات الآسیویة. بمرور الوقت، من المتوقع أن تدخل بکین هذه البلدان تدریجیاً فی فلکها الإقتصادی والسیاسی بشکل أکثر فعالیة. ستکون النتیجة الحتمیة لهذا الإتجاه تعزیزًا إضافیًا لطموحات الصین الجیوسیاسیة فی المنطقة. ربما لهذا السبب، وُصفت المعاهدة بأنّها انقلاب تعتزم الصین استخدامه لتوسیع نفوذها فی جمیع أنحاء المنطقة والسیطرة على السوق الآسیویة، وهی القضیة التی أثارت قلق الهند وتسببت فی انسحابها کعملاق إقتصادی آسیوی آخر من المعاهدة.

یُعد دور الصین الحاسم فی الإتفاقیة مؤشرًا واضحًا على أنّ الدول الأعضاء، مثلاً مجموعة بریکس، تسعى للحصول على حصة أکبر من الإقتصاد العالمی والمنافسة الإقتصادیة مع الولایات المتحدة. إنّ نهج هذه الدول، وخاصة الصین والیابان وکوریا الجنوبیة، لتوسیع التعاون الإقتصادی والتجاری دون وجود الولایات المتحدة، یعنی جهودها لقیادة المرکز الإقتصادی العالمی إلى آسیا. یمکن لمثل هذا النهج، فی حالة النجاح، أن یتحدى بشکل خطیر القوة الإقتصادیة غیر المستقرة للدول الغربیة، ولا سیما الولایات المتحدة، وهیمنة الدولار فی التجارة العالمیة.

یُظهر بوضوح توقیع الإتفاقیة من قبل دول مثل الیابان وکوریا الجنوبیة وأسترالیا ونیوزیلندا، والتی کانت حتى الآن متوافقة إلى حد کبیر مع الإقتصاد الأمریکی، إستراتیجیة إدارة ترامب المتمثلة فی اتباع سیاسات وإجراءات أحادیة الجانب والقائمة على القومیة المتطرفة، بما فی ذلک اندلاع حروب الرسوم الجمرکیة، من ناحیة، أدّى إلى خلق جو من عدم الثقة فی الولایات المتحدة، ومن ناحیة أخرى، أدى بالدول إلى السعی لتحقیق تکامل إقتصادی أکبر. وبالتالی، فشلت جهود ترامب لعزل الصین وعزلها عن سلاسل القیمة العالمیة، لهذا السبب، أصبحت الولایات المتحدة الآن أکبر غائب فی أکبر منطقة تجارة حرة فی العالم.

من وجهة نظر أخرى، یمکن وصف هذه المعاهدة بأنّها رمز واضح للمواجهة الجماعیة لدول آسیا والمحیط الهادئ مع الأحادیة الأمریکیة. وهذا سیجعل من الصعب على الشرکات الأمریکیة وغیرها من الشرکات غیر الأمریکیة المنافسة فی منطقة آسیا والمحیط الهادئ. کما یتوقع أن یتکّبد المصدرون الأمریکیون خسائر فادحة خاصة فی قطاع الطاقة. أیضاً یتطلب تحسین الإقتصاد داخل الولایات المتحدة للعودة إلى الجهود المشترکة وتنسیق الإقتصادات الصناعیة المتقدمة. لذلک، من المحتمل أن تتخذ الإدارة الأمریکیة الجدیدة، بقیادة جو بایدن، نهجًا مختلفًا تجاه آسیا عن ترامب وترکز على منطقة جنوب شرق آسیا.

تتقدم الصین، وکذلک جزء کبیر من منطقة آسیا والمحیط الهادئ، بشکل کبیر على أوروبا والولایات المتحدة فی کبح کورونا والعودة إلى الحیاة الطبیعیة. نما الإقتصاد الصینی بنسبة 7٪ من ینایر إلى سبتمبر 2020. على الرغم من تراجع النمو الإقتصادی والرکود الناجم عن کورونا فی أجزاء أخرى من العالم، تستمر صادرات الصین فی النمو، حیث یأتی 15٪ من النمو الإقتصادی للبلاد فی الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020 من هذه الصادرات. لا یمکن لجیران الصین أن یتجاهلوا حقیقة أنّ قطاع التصنیع فی الصین الیوم یبلغ ضعف نظیره فی الولایات المتحدة وینمو بمعدل الضعف تقریبًا.

یظهر وجود الیابانیین فی الإتفاقیة –والذین یعتمدون على الولایات المتحدة أمنیاَ ولدیهم توترات أمنیة مع الصین، أنّه حتى فی نظر الیابانیین، فإنّ فترة النظام الإقتصادی القائم على الدولار تقترب من نهایتها وأنّهم یستعدون لنظام إقتصادی متعدد الأطراف. ربما تکون هذه القضیة أهم رسالة یمکن تلقیها من وجود الیابان وکوریا الجنوبیة وأسترالیا ونیوزیلندا فی هذه المعاهدة. الحقیقة هی أنّه فی السنوات الأخیرة، لم یحدث الکثیر من النمو الإقتصادی والتطورات الجیوسیاسیة فی العالم فی الغرب بل فی الشرق.

لیس من قبیل الصدفة أن ینتقل "المنتدى الإقتصادی العالمی" (World Economic Forum)، الذی یعقد سنویًا فی ینایر فی دافوس بسویسرا، إلى سنغافورة هذا العام. یرى عدد من الخبراء فی هذه الخطوة على أنّها علامة على ثقة المنتدى المتزایدة فی آسیا. هل یعنی انتقال دافوس إلى سنغافورة فی عام 2021 أنّ المنتدى الإقتصادی العالمی، الرائد فی الرأسمالیة والعولمة، سیکون لدیه ثقة أکبر فی آسیا الآن أکثر من أوروبا؟

 حسین ملاعبداللهی، خبیر أول فی دراسات السیاسة الخارجیة

     "إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است