تُعد الانتخابات الرئاسیة لعام 2020 مظهرًا من مظاهر الإنقسام العمیق والإزدواجیة القطبیة فی المجتمع الأمریکی والذی یبدو أنه یتفاقم مع وصول إدارة بایدن إلى السلطة. لدى ناخبی ترامب البالغ عددهم 75 ملیونًا مطالب مختلفة تمامًا عن ناخبی بایدن، ویمکن أن یؤدی ذلک إلى زیادة التوترات والصراعات فی أقسام المجتمع الأمریکی التی لدیها نظرة أکثر تقلیدیة ویرون ما یعتبرونه ماضی أمریکا الفخور فی خطر الانقراض. فی غضون ذلک، التوترات بین الدیمقراطیین والجمهوریین حول السلطة السیاسیة الأمریکیة قد تجعل الأمور صعبة للغایة على بایدن. الحزب الجمهوری یخشى من أنه بعد هزیمة ترامب، لن یعودوا قادرین على دخول البیت الأبیض فی المستقبل القریب؛ لذا یبدو أن نهج الحزب على مدى السنوات الأربع المقبلة سیکون داعماً لترامب وعائقاً أمام تصرفات بایدن.
المقارنة بین إنتخابات 2016 و 2020 فی الولایات المتحدة تُظهر وجود مکونات ثابتة، أبرزها استنفاد الحزبین، الحزب الدیمقراطی والحزب الجمهوری، ولعب ترامب دورًا محوریًا کفرد خارج النظام السیاسی. على الرغم من أنّ ترامب خسر فی الإنتخابات، إلا أنّه لا یبدو أنّه من السهل إبعاده وآرائه عن المشهد السیاسی الأمریکی. لیس لدى ترامب أی خطط للإعتراف بهزیمته فی الإنتخابات، وقال إنه سیرشّح مرشحه الجمهوری لإنتخابات عام 2024 بعد تنصیب جو بایدن فی 20 ینایر. وفی هذا الصدد، فإنّ دعم الجمهوریین، وخاصة أعضاء الکونجرس الجمهوریین، لترامب فی إطار "الإنتخابات المسروقة" یظهر أن هذا الحزب یرى مستقبله السیاسی فی الإحتفاظ بمؤیدیه مهما کان الثمن.
فقد الحزب السیطرة على مجلس النواب والبیت الأبیض، وسیفقد السیطرة على مجلس النواب إذا خسر اثنین من المرشحین الجمهوریین فی انتخابات ولایة جورجیا 5 ینایر. هذا کابوس واجهته الشخصیات الجمهوریة البارزة لفترة طویلة، والدعم الأعمى هو الحل الوحید الذی اتخذوه. الجمهوریون فی الکونجرس الذین هم على درایة بالعملیة السیاسیة والدستور الأمریکی، إلى جانب ترامب، شککوا فی النظام الإنتخابی فی هذا البلد ووافق عدد قلیل منهم على قبول نتائج الإنتخابات. قد یکون هذا سیفًا ذو حدین لهذا الحزب.
فمن ناحیة، یمکنهم أن یأملوا فی الإحتفاظ بمقاعدهم بمساعدة ترامب، ولکن من ناحیة أخرى، یمکن أن تؤدی تصرفات ترامب وتصریحاته فی فترة ما بعد الرئاسة إلى إضعاف الحزب؛ لأن ترامب یعتبر النظام السیاسی الأمریکی بأکمله فاسدًا ویشکک فی المبادئ التی یقوم علیها دستور الولایات المتحدة. قد یؤدی ذلک ببعض الجمهوریین المعتدلین والتقدمیین إلى الابتعاد عن الحزب. حقیقة أن الهزیمة فی انتخابات ولایة جورجیا قد تجعل الوضع الجمهوری أکثر هشاشة ویمکن أن تکون أحد أسباب ارتباطهم بترامب ورفض بایدن کرئیس للولایات المتحدة؛ لذلک، لا یمکن توقع أی تغییر فی السلوک الجمهوری حتى 6 ینایر على الأقل، عندما یتعین على مجلس الشیوخ إعلان النتائج الانتخابیة للإنتخابات الرئاسیة. ومع ذلک، فإنّ انتخاب مجلس الشیوخ فی جورجیا بمقعدین وحده لا یمکن أن یبرر السلوک الجمهوری ویرافقه فی نشر قصة "الإنتخابات المسروقة". فی هذا الصدد، یجب إلقاء نظرة أعمق.
أزمات المجتمع الأمریکی
انتخابات 2020 المثیرة للجدل غیر مسبوقة فی التاریخ الأمریکی وغیر مسبوقة فی حقبة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة. ومع ذلک، فإن انتخابات 2020 لها أوجه تشابه مع انتخابات 2016 بسبب أزمات المجتمع الأمریکی. فی الواقع، شهدت الإنتخابات الرئاسیة الأمریکیة، فی الحالتین الأخیرتین على الأقل، صعود الطبقات الإجتماعیة المنسیة وهی استجابة لتزاید عدم المساواة والرکود بعد عقود. إتّسعت الفجوة بین النخبة الثریة والشعب فی الجیلین الأخیرین فی الولایات المتحدة. لم یحل وجود ترامب فی البیت الأبیض لمدة أربع سنوات أزمة عدم المساواة ، بل أدّى إلى توسیع الفجوات فی المجتمع الأمریکی، وفرض، من الناحیة العملیة، سجلاً من الانقسام غیر المسبوق. فاز ترامب برئاسة الولایات المتحدة فی عام 2016 حیث عانت البلاد من أزمات داخلیة. ترامب علامة واضحة على وجود أزمة فی الولایات المتحدة بهذا الصدد، لکنه لیس هو الحل للأزمة. من ناحیة أخرى، لا ینبغی تحلیل ترامب والترامبیة فی سیاق بسیط من الشعبویة، ولکن یجب إلقاء نظرة أعمق على المجتمع الأمریکی.
الإتجاه التاریخی للأنظمة الرأسمالیة یظهر أنّ هذه الأنظمة تواجه أزمات دوریة خلال حیاتها ویجب أن تکون فعالة فی التغلب على الأزمة کل بضع سنوات. فی الولایات المتحدة، یمر النظام الرأسمالی بأزمة لم یتمکن أوباما أو ترامب من حلها.
فی الماضی، فی أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین، حُلت الأزمة فی أمریکا بإقامة دولة الرفاهیة. فی ظل دولة الرفاهیة، التی تضمن الحد الأدنى مثل التأمین ضد البطالة، والحد الأدنى للأجور، والحصول على الرعایة الصحیة، إلخ..، تمکنت من إدارة الأزمة على المدى المتوسط. استمر هذا الوضع لنحو نصف قرن. نشأت أزمة أخرى فی التسعینیات وبعد ذلک، تم تقدیم فکرة ریغان کرد فعل لهذه الأزمات، مما یعنی نهایة دولة الرفاهیة، وتقلیص حجم الحکومة، والخصخصة، وإلغاء القیود، وآلیات السوق. سیاسات الإدارات المختلفة بعد ریغان استجابت إلى حد ما لأزمات المجتمع الأمریکی، لکن الأزمة الإقتصادیة لعام 2008 أظهرت بوادر أزمة خطیرة وجدیدة.
أدى تنصیب أوباما إلى رفع الآمال فی أن یتمکن من إیجاد مخرج من الأزمة، لکن من الناحیة العملیة، بعد ثمانی سنوات فی المنصب، لم یستطع التقلیل من حدة الأزمة. فی ظل حکمه، على الرغم من النمو الاقتصادی المتزاید وخلق فرص العمل، ظلت أجور العدید من المواطنین مستقرة وزادت عدم المساواة فی المجتمع الأمریکی.
تسمى الأزمة الجدیدة فی النظام الرأسمالی، وخاصة فی الولایات المتحدة، أزمة عدم المساواة، والتی وصفها بالتفصیل توماس بیکر فی کتابه رأس المال فی القرن الحادی والعشرین فی عام 2013 ویصف فی کتابه الأزمة المستقبلیة للنظام الرأسمالی على أنها أزمة عدم مساواة یتجاوز فیها معدل العائد على رأس المال معدل النمو الإقتصادی العام، مما یؤدی إلى تراکم الثروة وعدم الإستقرار على المدى الطویل. إنه یعتقد أنه إذا لم یتم إصلاح النظام الرأسمالی، فسیتم تهدید النظام الدیمقراطی للمجتمعات. تنبؤ یتحقق بالنسبة للولایات المتحدة.
إن صعود ترامب هو فی الواقع علامة على احتجاج القطاعات المنسیة فی المجتمع الأمریکی. خلال فترة رئاسته التی استمرت أربع سنوات، ربما لم یتمکن ترامب من إجراء تغییر من شأنه أن یفید الطبقة العاملة. لم یکن لدیه حقًا أی إنجازات اقتصادیة مقبولة لهذه الفئة ، لکنه لا یزال یتمتع بشعبیة کبیرة. فی انتخابات عام 2016، فاز ترامب بنسبة 46.1٪ من الأصوات الشعبیة. فی انتخابات 2020، وعلى الرغم من کل الدعایة ضده فی وسائل الإعلام الرئیسیة، لم تتراجع شعبیته فحسب، بل ازدادت أیضًا إلى حد ما. حصل ترامب على 46.9٪ من الأصوات فی الانتخابات الأخیرة ، أی نحو 75 ملیون صوت.
ولعل أهم سبب لهذا الإنجذاب هو اعتماده على القیم الأمریکیة التقلیدیة، والتی هی الأکثر جاذبیة للطبقة البیضاء غیر المتعلمة. ثقافیًا، کان ترامب قادرًا على إقامة علاقات وثیقة مع الأشخاص الذین یقدرون قیمهم وتقالیدهم. ینظر متعصبو ترامب إلى ماضیهم على أنه تهدید ویعتقدون بقوة أن ترامب وحده هو القادر على حمایته. فی نظر جزء کبیر من الشعب الأمریکی، حافظ ترامب على وعوده الإنتخابیة التی عارضتها حتى المؤسسة السیاسیة الأمریکیة. وفقًا لبعض الخبراء، کانت العقیدة السیاسیة لترامب هی التی أعطته إقبالًا کبیرًا.
فی هذا الصدد، یمکن فهم جاذبیة تصریحات ترامب العنصریة. زیادة عدد المهاجرین وتقلدهم مناصب رئیسیة یعنی تغییر وتقویض القیم الأمریکیة غیر المقبولة لأنصار ترامب. بالإضافة إلى میله نحو ترامب بسبب قیمه الأمریکیة، فإنّ آرائه حول قضایا مثل زواج المثلیین والإجهاض جعلت منه متعصبًا متطرفًا بین الإنجیلیین.
لا یتم التسامح مع مثل هذه الإتجاهات من قبل أنصار وجهات النظر اللیبرالیة. أدّى خطاب ترامب العنصری والمناهض للمرأة والمناهض للمهاجرین، والسخریة من جمیع إنجازات الرؤساء السابقین، إلى تعزیز إقبال بایدن فی انتخابات عام 2020، حیث حصل على 81 ملیون صوت غیر مسبوق. السؤال المطروح الآن هو ما إذا کان بایدن یمکن أن یکون الحل للأزمة العمیقة الحالیة فی الهیکل الأمریکی. فی هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه لا یأخذ بالإعتبار جزءًا کبیرًا من الأزمة التی قدر ترامب منها. قائمة بایدن من المرشحین الرئیسیین للوظیفة تشمل اللاتینیین والسود وحتى الأمریکیین الأصلیین، مما یعنی زیادة المواجهة فی مجتمع أمریکی ثنائی القطب. فی هذا الصدد، یشکل بایدن تهدیدًا خطیرًا للدیمقراطیة اللیبرالیة فی الولایات المتحدة إذا فشلت فی تلبیة مطالب جزء کبیر من الشعب الأمریکی، وقد لا یختلف عن ترامب من حیث الإضرار بالبنیة السیاسیة والإجتماعیة الأمریکیة.
تطورات الأحزاب الجمهوریة والدیمقراطیة
یعتمد الهیکل السیاسی الأمریکی إلى حد کبیر على الحزبین الجمهوریین والدیمقراطیین الرئیسیین. إن إلقاء نظرة على أنشطة الحزب الجمهوری یظهر أنه تحالف من نخب رجال الأعمال والمحافظین الإجتماعیین الذین تبنوا الشعارات التقلیدیة والأسواق الحرة والتجارة الحرة والإنفتاح على فرص الهجرة. لقد سعوا بشکل أساسی إلى تخفیض الضرائب على الأغنیاء، وإضعاف قوة النقابات العمالیة، وتقلیص الخدمات الإجتماعیة. من الواضح أنّ مثل هذه الأجندة تتعارض مع مصالح الطبقة العاملة.
فی المقابل، دعم الحزب الدیمقراطی تقلیدیًا الطبقة العاملة، ورفع الضرائب للأثریاء وزیادة الخدمات الاجتماعیة. ومع ذلک، منذ الثمانینیات، اجتذب الحزب إلى حد کبیر دعم النساء، والسود، وشباب المدن، والمثلیین، و البیئیین، وفشل فی التواصل مع الطبقة العاملة البیضاء. ربما تسبب هذا فی عدم ترحیب الطبقات الدنیا فی المجتمع الأمریکی لخطة أوباما للمساعدة فی تکالیف الرعایة الصحیة. لأنه من وجهة نظر الطبقات البیضاء الفقیرة، فإن خطة أوباما الأکثر منها تصب فی مصلحة الأقلیات.
ومع ذلک، لم یستجب الحزبان للإحتیاجات الجدیدة للمجتمع الأمریکی وأزمة النظام الرأسمالی. فی الوقت الذی شعرت فیه بعض الطبقات أنّهم وقعوا ضحیة لسیاسات نظام الحکم الفاسد وأن الأحزاب الأمریکیة الکبرى لیس لدیها خطط لحل الأزمة، تم أخذ تصریحات ترامب على أنها شخص لا یعتبر نفسه سیاسیًا ویستخدم کلمات وجمل بسیطة للغایة.
لا تشترک آراء ترامب فی شیء مع الحزب الجمهوری، لکنه سرعان ما اکتسب قیادة الحزب وفاز فی الإنتخابات الرئاسیة لعام 2016 کمرشح للحزب. وصل ترامب إلى السلطة فی وقت یمر فیه الطرفان بأزمة وجودیة. لکن وضع الحزب الجمهوری أسوأ من وضع الحزب الدیمقراطی. لطالما کان الحزب یخشى الهزیمة وفقدان السلطة السیاسیة فی الکونغرس والبیت الأبیض، ورأى ترامب وأنصاره فی ذلک فرصة جدیدة للحزب. ومع ذلک، فإن هزیمة ترامب فی انتخابات 2020 ترکت الحزب مرة أخرى فی حالة من القلق والإرتباک.
مرت أسابیع منذ فوز بایدن فی انتخابات 3 نوفمبر، لکن قلة من 249 جمهوریًا فی الکونجرس قبلوا بایدن کرئیس منتصر. فی هذا الصدد، یبدو أن الحزب الجمهوری وأعضاء الکونغرس الجمهوریین قد شاهدوا استمرارهم مع ترامب بأی ثمن. إنهم یعلمون جیدًا أن ترامب، بالنظر إلى أنصاره المتعصبین، یمکنه تدمیر مستقبلهم السیاسی. لذلک فی السنوات المقبلة، یبدو أن ترامب مستعد للعب دور مرکزی فی المعادلة السیاسیة الأمریکیة وقیادة الجمهوریین.
استنتاج:
تُعد الانتخابات الرئاسیة لعام 2020 مظهراً من مظاهر الإنقسام والإستقطاب فی المجتمع الأمریکی، والذی یبدو أنّه یتفاقم مع وصول إدارة بایدن إلى السلطة. ناخبی ترامب البالغ عددهم 75 ملیونًا لدیهم مطالب مختلفة تمامًا عن ناخبی بایدن، وقد یؤدی ذلک إلى زیادة التوترات والصراعات فی أقسام المجتمع الأمریکی التی لدیها نظرة أکثر تقلیدیة ویرون ما یعتبرونه ماضی أمریکا الفخور فی خطر الانقراض. أثناء ذلک، التوترات بین الدیمقراطیین والجمهوریین حول السلطة السیاسیة الأمریکیة یمکن أن یجعل الأمور صعبة للغایة بالنسبة لبایدن. الحزب الجمهوری یخشى من أنه بعد هزیمة ترامب، لن یعودوا قادرین على دخول البیت الأبیض فی المستقبل القریب، لذا یبدو أن نهج الحزب على مدى السنوات الأربع المقبلة هو دعم ترامب وعرقلة تصرفات بایدن. حتى أن الأعضاء المؤثرین فی الکونجرس یتحدثون عن حکومة ظل ترامب. من ناحیة أخرى، ستکون روایة "الانتخابات المسروقة" اختبارًا للولاء لترامب فی الحزب الجمهوری وذریعة لجعل هزیمة الحزب فی انتخابات 2020 أقل فعالیة. على مستوى الدولة ، فإن روایة "الانتخابات المسروقة" ستمهد الطریق أمام تمریر قوانین قاسیة وقمعیة للناخبین. تقید هذه القوانین التسجیل والمشارکة فی الإنتخابات ویمکن أن تمنع أیضًا التصویت بالبرید والتصویت المبکر. ستکون القوانین معادیة للسود وللاتینیین والهنود والشباب والطلاب وأی شخص من المرجح أن یصوت للدیمقراطیین. بشکل عام، یواجه بایدن موقفًا صعبًا للغایة فی السیاسة الأمریکیة، ولا یبدو أنه قادر على تهدئته أو التخفیف من أزمات المجتمع الأمریکی.
افسانه احدی، الخبیرة فی وزارة الخارجیة
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"