یسر العدید من دعاة حمایة البیئة عودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس ویأملون أن تحقق الولایات المتحدة هذا الهدف فی أقرب وقت ممکن وأن تلعب دورًا مسؤولاً فی تغیر المناخ من خلال التخطیط الذکی والحکیم. فی هذا الصدد، تعمل الصین بتخطیط بعید النظر، وکذلک الإتحاد الأوروبی، لقیادة الطریق فی الحد من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری. ویحاولون التفوق فی العلوم والتکنولوجیا واحتکارالسوق فی هذا المجال. ومن المتوقع أن یکون هذا أحد التحدیات الرئیسیة للولایات المتحدة فی المستقبل، والتی تتخلف أربع سنوات على الأقل عن منافسیها. لا تحتاج الولایات المتحدة إلى موافقة ودعم مجلس الشیوخ الأمریکی للعودة إلى إتفاقیة باریس، لذلک، من خلال إرسال رسالة من بایدن إلى الأمم المتحدة مفادها أنّ الولایات المتحدة على استعداد للعودة، بعد 30 یومًا، سیتم الإعتراف بعودتهم وإعادة الإنضمام إلى الإتفاقیة. إن عودة الولایات المتحدة إلى الإتفاقیة والتنفیذ اللاحق لالتزاماتها للحد من إنبعاثات غازات الإحتباس الحراری، بالإضافة إلى التأثیر المباشر على أزمة تغیر المناخ، ستشجع وتوجه البلدان الأخرى.
کان الرئیس الأمریکی المنتخب جو بایدن قد أعلن خلال حملته الإنتخابیة أنه سیعود إلى إتفاقیة باریس للمناخ فور انتخابه. بعد فرز الأصوات وتحدید تفوقه على ترامب والفرص شبه المؤکدة فی أن یصبح رئیسًا، أعلن خطتیه ذات الأولویة، بعنوان "مراجعة وتعدیل العلاقات الأمریکیة مع الصین" و "عودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس".
إتّخذ الرئیس الحالی دونالد ترامب خطوة مهمة نحو تقویض نهج التعددیة بإعلان انسحابه من إتفاقیة باریس فی 1 یونیو 2017. وکان قد سبق له أن ترک عدداً من المعاهدات الدولیة تحت شعار "أمریکا أولا" من أجل تقلیص الإلتزامات الدولیة لبلاده، فاختار طریق العزلة الدولیة لبلاده باختیار نهج أحادی الجانب. وکان من بینها انسحاب الولایات المتحدة من الیونسکو فی أکتوبر 2017، والإنسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فی یونیو 2018، والإنسحاب من إتفاقیة باریس لتغیر المناخ فی 1 یونیو 2017، وتقلیص المشارکة المالیة فی الناتو (من 22٪ إلى 16٪). أخیرًا، فی 7 یولیو، أعلن فی رسالة إلى الکونجرس أنه قدم طلبًا رسمیًا إلى الأمم المتحدة للإنفصال عن منظمة الصحة العالمیة.
یسعى هذا المقال للإجابة على بعض الأسئلة حول سبب انسحاب ترامب من إتفاقیة باریس، وکیف عادت إدارة بایدن إلیها، وآثار تلک العودة. والسؤال عما إذا کانت عودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس ستقلل من ظاهرة الإحتباس الحراری وتحسن المناخ؟ أم أن هذه العودة ستُعتبر خطوة نحو تعزیز التعددیة فی النظام الدولی؟ کیف سیکون رد فعل الرأی العام الأمریکی، وخاصة أصحاب الصناعة، على هذه الخطوة، فی ضوء التداعیات الإقتصادیة للعودة إلى الإتفاقیة؟ ما هو مؤکّد هو أنّ عودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس، باعتبارها أکبر إقتصاد فی العالم وثانی أکبر مصدر لانبعاثات غازات الإحتباس الحراری، هی قضیة مهمّة للغایة. مثلما کان انسحاب هذا البلد من الإتفاقیة فی غایة الأهمیة وسبب الکثیر من القلق.
تمّت مناقشة إتّفاقیة باریس للمناخ(1) فی إطار إتفاقیة الأمم المتحدة (UNFCCC(2 بشأن تغیر المناخ للحد من إنبعاثات غازات الإحتباس الحراری (GHG(3 فی قمة باریس لتغیر المناخ 2015، وأخیراً فی 12 دیسمبر من ذلک العام تمّت الموافقة علیها بإجماع الدول المشارکة. حالیًا، وقّعت 195 دولة على إتّفاقیة باریس وصادقت علیها 190 دولة رسمیًا، والولایات المتحدة هی الدولة الوحیدة التی غادرت الإتفاقیة. وتجدر الإشارة إلى أنّ إتّفاقیة باریس للمناخ هی وثیقة دولیة مهمة، على الرغم من أنّها لیست ملزمة على ما یبدو، تلتزم الدول بموجبها طواعیةبخفض معین فی انبعاثات غازات الإحتباس الحراری.
إنّ خصوصیة وأهمیّة قمّة باریس، ولا سیما الوثیقة المعتمدة فی نهایة القمة على الإتفاقیات السابقة بشأن تغیر المناخ، توفّر إطارًا للإلتزامات التشارکیة لجمیع البلدان، سواء کانت متقدمة أو نامیة، للحد من انبعاثات ثانی أکسید الکربون. قبل اتفاق باریس، کان بروتوکول کیوتو أول وثیقة شاملة بشأن تغیر المناخ، والتی تتطلب فقط البلدان المتقدمة التی لدیها حصّة أکبر من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری للحد من انبعاثاتها، وتمّ تشجیع البلدان النامیة من خلال تلقّی المساعدة المالیة والتکنولوجیة فی إطار خطة CDM على التحرک فی هذا الإتّجاه. مع الأسف، فشل بروتوکول کیوتو فی تحقیق أهدافه بسبب أوجه القصور فی المصادر الرئیسیة لانبعاثات غازات الإحتباس الحراری.
إتفاق باریس هو نتیجة الدورة الحادیة والعشرین لإتفاقیة الأمم المتحدة بشأن تغیّر المناخ (UNFCCC) التی تهدف إلى منع الإحترار العالمی من خلال الترکیز على الحد من غازات الإحتباس الحراری، بما فی ذلک ثانی أکسید الکربون. تدعو الفقرة 1 من المادة 4 من هذه الإتفاقیة جمیع الدول إلى التحرک بأسرع ما یمکن للتخلص من أنواع الوقود مثل النفط والغاز.
مع 17 فی المائة من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری فی العالم، تحتل الولایات المتحدة المرتبة الثانیة بعد الصین بنسبة 30 فی المائة. فی 1 یونیو 2017، أعلن ترامب أنّه یعتزم الإنسحاب من إتفاقیة باریس. تمّ الإنسحاب فی 4 نوفمبر 2019، بناءً على طلب رسمی من الولایات المتحدة، وفقًا للمادة 28 من المعاهدة(4). من ناحیة أخرى، وفقًا للمادة 29 من الإتفاقیة(5)، تمّت صیاغة هذا الطلب رسمیًا بعد عام واحد من تاریخ التقدیم، أی فی 4 نوفمبر 2020. ینص طلب الولایات المتحدة على أنّ الإنضمام إلى الإتفاقیة سیؤدی إلى أضرار غیر عادلة للعمال والموظفین ودافعی الضرائب الأمریکیین، بینما کانت الولایات المتحدة نشطة فی الحد من إنبعاثات غازات الإحتباس الحراری على الرغم من النمو الإقتصادی المستمر. زعم وزیر الخارجیة بومبیو أنّ انبعاثات غازات الإحتباس الحراری فی الولایات المتحدة انخفضت بنسبة 13 فی المائة بین عامی 2017 و 2005.
عملیة عودة الولایات المتحدة إلى المعاهدة وآثارها
فیما یتعلق بکیفیة عودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه العودة داخلیًا لا تتطلب موافقة ودعم مجلس الشیوخ, لأنّها إتفاقیة تنفیذیة, لذلک، من خلال إرسال رسالة من بایدن إلى الأمم المتحدة تفید بأن الولایات المتحدة على استعداد للعودة، بعد 30 یومًا، سیتم الإعتراف بالعودة وإعادة الإنضمام إلى الإتفاقیة. خلال رئاسة أوباما، تعهدت الولایات المتحدة بتخفیض إنبعاثات غازات الإحتباس الحراری بحلول عام 2025 إلى أقل من عام 2005، لکن هذا لم یحدث خلال إدارة ترامب، وتمّ إلغاء العدید من اللوائح التی تمّ تصمیمها لهذا الغرض. بموجب خطة بایدن للطاقة النظیفة والعودة إلى إتفاقیة باریس، تحتاج الولایات المتحدة إلى استثمار حوالی ملیاری دولار فی الطاقة النظیفة والوفاء بالتزاماتها على مدى السنوات العشر القادمة. من خلال هذا الإستثمار، من المرجّح أن تخفض الولایات المتحدة انبعاثات غازات الإحتباس الحراری بمقدار 75 ملیار طن خلال الثلاثین عامًا القادمة، مما یؤدی إلى انخفاض بعشر درجة مئویة فی ظاهرة الإحتباس الحراری. إنّ عودة الولایات المتحدة إلى الإتفاقیة والتنفیذ اللاحق للإلتزامات للحد من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری، بالإضافة إلى التأثیر المباشر على أزمة تغیر المناخ، ستشجع وتوجه البلدان الأخرى، وکذلک سیاسات الصین باعتبارها أکبر مصدر فی العالم لغازات الإحتباس الحراری.
مع قرار الولایات المتحدة بالعودة إلى إتفاقیة باریس، من المتوقع أن تضع إدارة بایدن خططًا جدیدة لتحقیق أهداف الإتفاقیة، وستعمل الولایات الأمریکیة المختلفة على کیفیة المساهمة فی تحقیق أهداف تقلیل انبعاثات غازات الإحتباس الحراری. فی غضون ذلک، أصدرت بالفعل مجموعة من الشرکات الکبرى مثل أبل (Apple) وجوجل (Google) وغولدمان ساکس (Goldman Sachs) ورویال داتش شل (Royal Dutch Shell) بیانًا مفاده أن وجود الولایات المتحدة فی اتفاقیة باریس سیؤدی إلى تعزیز قدرتها التنافسیة فی السوق العالمیة والسماح للولایات المتحدة بأن تکون رائدة عالمیًا فی تطویر تقنیات الحد من انبعاثات الکربون. ومع ذلک، فإن إعادة هیکلة الصناعات الأمریکیة من الوقود الأحفوری إلى الطاقة النظیفة، والتی تهدف إلى خفض کمیة الکربون الناتج عن تولید الکهرباء إلى الصفر بحلول عام 2035 وأیضًا تقلیل انبعاثات الکربون فی جمیع المجالات إلى الصفر بحلول عام 2050، تتطلب میزانیات تصل إلى 2 تریلیون دولار. ولکن بالإضافة إلى هذه الحقیقة، فإنّ إصرار الشرکات الأمریکیة المهمّة وذات السمعة الطیبة على تولّی زمام المبادرة فی مجال منافسة تکنولوجیا الطاقة النظیفة وتحقیق أرباح کبیرة وربما احتکار السوق فی هذا المجال، هو أمر مهم لا ینبغی إغفاله، لأنّه فی النظام الإقتصادی الرأسمالی، من المرجّح أن یکون هذا عاملاً محددًا لمشارکة الولایات المتحدة، والغرب بشکل أساسی، فی إتفاقیة باریس.
إجمالاً، جو بایدن الرئیس الأمریکی المنتخب، الذی أعلن خلال حملته الإنتخابیة وبعد الحصول على أغلبیة أصوات الهیئة الإنتخابیة أنّه سیعود إلى إتفاقیة باریس فی الیوم الأول من رئاسته، ویهدف إلى تقلیل انبعاثات غازات الإحتباس الحراری إلى الصفر بحلول عام 2050. من الواضح أنّ التخطیط للأعوام الثلاثین القادمة یتطلب خططًا قصیرة الأجل ومتوسطة الأجل وطویلة الأجل، بما فی ذلک تخصیص المیزانیة، لکن لا ینبغی أن ننسى أنّه حتى تحدید هدف لعام 2030، وهو ما یعنی التخطیط وتخصیص الأموال للسنوات العشر القادمة، لن یکون سهلاً على بایدن. على الرغم من أن معاهدة باریس هی إتفاقیة طوعیة وغیر ملزمة وتعتبر إتفاقیة تنفیذیة بموجب القانون المحلی للولایات المتحدة، فإنّ انسحابها أو إعادتها لا یتطلب موافقة مجلس الشیوخ. لکن من المرجح أن یواجه بایدن الجمهوریین فی مجلس الشیوخ فی عملیة التخطیط والمیزنة. الحل المقترح من قبل بول بلدسو (Paul Bledsoe) وهو مستشار استراتیجی لمعهد السیاسات القیادی ومستشار کلینتون للمناخ فی البیت الأبیض، لبایدن، هو تطبیق لوائح إنفاذ على برامج الحد من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری لتجنب الحواجز القانونیة وموافقة مجلس الشیوخ. فی الوقت نفسه، تجدر الإشارة إلى أنّه فی حین أن العدید من دعاة حمایة البیئة مسرورون بعودة الولایات المتحدة إلى إتفاقیة باریس، فإنّهم یأملون أن تحقق الولایات المتحدة هذا الهدف فی أقرب وقت ممکن، ومن خلال التخطیط الذکی والحکیم، تلعب دورًا مسؤولاً فی مجال تغییر المناخ. على الجانب الآخر من العالم، تضع الصین خططًا بعیدة النظر، ومن ناحیة أخرى، یعمل الإتحاد الأوروبی بلا کلل لقیادة قضیة الحد من انبعاثات غازات الإحتباس الحراری والتقدم فی العلوم والتکنولوجیا، وربما احتکار سوق التکنولوجیا. ومن المتوقّع أن یکون هذا أهم تحدیات أمریکا فی المستقبل. لأنّه حتى الآن، فقد تأخرت أربع سنوات على الأقل عن المنافسة.
- 1- Paris Agreement
- 2- United Nations Framework Convention on Climate Change
- 3- Green House Gas
-
4- وفقًا للمادة 28، بعد ثلاث سنوات من دخول هذه الاتفاقیة حیز التنفیذ بالنسبة لدولة ما، یجوز لتلک الدولة الانسحاب من الاتفاقیة عن طریق إرسال إشعار کتابی إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة ، بصفته الأمین. لهذا السبب، قدمت الولایات المتحدة، التی انضمت إلى المعاهدة فی عام 2016 ، إشعارًا کتابیًا بالانسحاب فی عام 2019.
-
5- وفقًا للمادة 29 من معاهدة باریس، عندما تنسحب دولة ما من الاتفاقیة، یبدأ الانسحاب من الاتفاقیة بعد عام واحد من تاریخ الإشعار الکتابی. لذلک، فإن موعد الانسحاب الرسمی للولایات المتحدة من المعاهدة هو 4 نوفمبر 2020.
تنص إتفاقیة باریس على أنّه بمشارکة وتعاون الدول، یجب أن تکون الزیادة فی درجة الحرارة العالمیة مقارنة بفترة ما قبل الصناعة أقل من درجتین مئویتین؛ ولکن حتى الآن، إرتفعت درجة حرارة الأرض بمقدار 1.2 درجة مئویة مقارنة بفترة ما قبل الصناعة، وإذا استمرّ معدّل الإنبعاث بنفس الطریقة، فسوف یرتفع بمقدار 1.5 درجة مئویة فی العقدین المقبلین. وفقًا للجنة العلمیة للأمم المتحدة المعنیة بتغیر المناخ، فإنّ الإحترار العالمی الذی یصل إلى درجتین مئویتین فی السنوات القادمة قد یؤدی إلى أزمة غذاء عالمیة. ومع ذلک، یعتقد العدید من العلماء أنّ مستوى الدرجتین المحدّد فی إتفاقیة باریس لن یکون کافیاً لمنع الأزمات. تحتاج کل دولة تنضم إلى المعاهدة إلى تقدیم خططها الطوعیّة لخفض الإنبعاثات فی السنوات القادمة، ویطلب من الدول تقدیم تقاریر دقیقة عن التقدم المحرز فی خططها إلى الأمم المتحدة.
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"