مكانة روسيا في صياغة تاريخ العالم (الجزء السابع)
عُقدت الجلسة العلمية الأسبوعية للتاريخ يوم الأربعاء الحادي والعشرين من أغسطس لعام ۲۰۲۴، بمشاركة الأستاذ الدكتور محمد حسن مهديان. وكان موضوع المحاضرة مكانة روسيا في صياغة تاريخ العالم. وفيما يلي أهم النقاط التي تم تناولها في المحاضرة:
عُقدت الجلسة العلمية الأسبوعية للتاريخ يوم الأربعاء الحادي والعشرين من أغسطس لعام 2024، بمشاركة الأستاذ الدكتور محمد حسن مهديان. وكان موضوع المحاضرة "مكانة روسيا في صياغة تاريخ العالم". وفيما يلي أهم النقاط التي تم تناولها في المحاضرة:
قال الدكتور مهديان: كما سبق وذكرنا، كان البلشفيون أول من ابتدع فكرًا سياسيًا يفحص كافة المجالات العلمية وفقًا لأفكار ماركس ولينين. ولهذا السبب، تم عزلة الأدباء الكلاسيكيون الروس، وبرز أدباء يعملون بصبغة سياسية بحتة. وكان نيكولاي أستروفسكي أحد هؤلاء الأدباء، الذي كتب كتابًا لتصوير بطولات السوفييت خلال الحرب العالمية الثانية. وكان على طلاب جامعة موسكو دراسة هذا الكتاب الذي يبلغ 200 صفحة، على الرغم من قيمته الأدبية المتواضعة، في بداية دراستهم. وكتب عالم النفس الروسي الشهير بوبابلو فون رسالة إلى المكتب السياسي للبلشفيين، ذكر فيها أن أفعال البلشفيين أدت إلى نشوء الفاشية المبكرة على الساحة الدولية، وأن موسوليني وهتلر قد استوحيا فكرتهما منهم.
تجدر الإشارة إلى أنه في البلدان التي تختلط فيها الأفكار بالسياسة، فإن بعض جوانب التاريخ إما يتم تجاهلها أو يتم تحريفها. وفي السنوات الأولى من عملي في وزارة الخارجية، قمت بزيارة مؤسسات علمية وبحثية روسية وإجراء حوارات معها. وكانت إحدى هذه المؤسسات معهد الدراسات الشرقية، وهو المركز الرئيسي لدراسات إيران في روسيا. وكان كادر هذا المعهد يتميز بالكفاءة والخبرة. في تلك السنوات، كان هذا المعهد يبحث في رضا شاه وفوزية ومواضيع مشابهة، واقترحنا عليهم تحديد مشاريع علمية حول الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لكنهم أجابوا بأن هذه الثورة ثورة جديدة، وأن التجربة قد أظهرت لنا أن الثورات تشهد تغييرات كبيرة في المستقبل. وفي هذا الصدد، أشاروا إلى مثال ماو تسي تونغ في الصين الذي كان يحظى بتقدير كبير بين الشعب الصيني كمعبود في وقت من الأوقات، ولكن شعبيته تراجعت تدريجيًا.
وإذ أواصل شرح فترة دراسة الطلبة الإيرانيين في موسكو، لا بد لي من القول إن هؤلاء الطلبة كانوا يتمتعون بسلوك مهذب وأخلاقي رفيع، وذلك بفضل القيم والمعايير التي غرست فيهم. وقد حظوا باحترام الشعب السوفيتي وأساتذة الجامعة على حد سواء، بغض النظر عن معتقداتهم. وكان الأساتذة الذين يدرسون العلوم الاجتماعية بشكل خاص، مثل تاريخ الحزب الشيوعي والمادية التاريخية والشيوعية العلمية وغيرها، على صلة بأجهزة الأمن السوفيتية. وكانت هذه الأجهزة تبعث ممثلين من منظمة الشبيبة الشيوعية السوفيتية (الكومسومول) إلى بين الطلاب في مساكنهم، لإبلاغ الأساتذة بمسائل الطلاب المختلفة، ولا سيما المسائل المعيشية. ولذلك كان الطلاب تحت مراقبة الأساتذة. ورغم التحذيرات المتكررة، نشأت علاقات ودية بين بعض الطلاب الإيرانيين والروس. وخلال هذه العلاقات، كان الطلاب الروس يخبرون الإيرانيين بأنهم ينتمون إلى ثقافة وعادات وعالم مختلف، وأنهم أكثر براءة من المجتمع الروسي، وأن لا يتوقعوا منهم أن يتصرفوا مثل الإيرانيين، لأن ثقافتهم تختلف اختلافًا كبيرًا. وكانت فترة دراستنا في موسكو من أفضل الفترات المعيشية للشعب السوفيتي منذ وصول البلشفيين إلى السلطة، لأن الوضع السياسي والاقتصادي والمعيشي في روسيا تدهور بشكل كبير منذ أواخر السبعينيات.
تعرفنا خلال فترة دراستنا في موسكو على سفيرين إيرانيين هما أميرتيمور كلالي وأحمد أردلان. وقد شغل الفقيد كلالي منصب السفير في موسكو من عام 1971 إلى 1974 ، وشغل أردلان المنصب نفسه من عام 1974 حتى عشية الثورة الإسلامية. وكانا شخصيتين محترمتين ولهما مكانة مرموقة. وبعد الثورة، وخلال عملنا في السفارة، تعاملنا مباشرة مع أربعة سفراء آخرين كانوا يتمتعون بشخصيات قوية. وكانت علاقتنا بالسفراء السابقين للثورة تقتصر على حضور الاحتفالات في السفارة، حيث كانت السفارة الإيرانية تدعو مجموعة الطلاب الإيرانيين للاحتفال بالمناسبات المختلفة. وكان أميرتيمور كلالي أكثر صراحة من السفراء الآخرين، وقد حافظ على نبرة ديمقراطية في خطاباته رغم التحذيرات التي تلقاها من السافاك.
ومن المشاكل التي كانت تواجه المجتمع السوفيتي في ذلك الوقت انتشار حالات السكر في الشوارع، مما جعل التجول بعد الساعة السابعة أو الثامنة مساءً أمرًا محفوفًا بالمخاطر. وكان هؤلاء السكارى يهاجمون الأجانب وحتى الروس، ويقومون بسرقتهم. وقد تعرضت شخصيًا لمثل هذه الحادثة، حيث حاول شخصان سرقتي، لكني استغليت حالة سكرهم وهربت إلى مجموعة من الناس في الشارع. وكانت السرقة منتشرة في الاتحاد السوفيتي في تلك السنوات. وكانت هناك مراكز تسمى "مراكز الإفاقة" في الاتحاد السوفيتي، تقوم بمساعدة الشباب الذين كانوا يسكرون بشدة ولا يستطيعون العودة إلى حالتهم الطبيعية، حيث يقومون بغسل معدة هؤلاء الشباب حتى يستعيدوا وعيه تدريجيًا ثم يخرجونهم من المركز. وكانت هناك الكثير من المضايقات والمشاكل في الشوارع العامة في ذلك الوقت.
كنا خلال فترة دراستنا نلتقي أحيانًا بالشيوعيين في المطاعم والمسارح ودور السينما وغيرها. وقد تحدثنا ذات مرة في مطعم في باكو مع أحد هؤلاء الشيوعيين. وقد عبّر عن ندمه الشديد على هروبه إلى الاتحاد السوفيتي، وتمنى أن يخلق شاه الظروف المناسبة لعودة الشيوعيين الندائمين إلى بلادهم.
ومنذ عام 1976، الذي يُعتبر العصر الذهبي للاتحاد السوفيتي، بدأ الوضع يتدهور. ولم يعد بريجنيف قادراً على إدارة الأمور كما ينبغي. وكان السبب في ذلك اعتماده على الأدوية المهدئة التي أثرت سلبًا على جسده ونفسيته. وقد تغيرت ملامح وجه بريجنيف بسبب هذه الأدوية، ولم يعد قادراً على نطق بعض الكلمات بشكل صحيح، مما جعله موضع سخرية الناس. وشهدت السنوات الأخيرة من حكم بريجنيف عدة أحداث عالمية مهمة. من بين هذه الأحداث الثورة الإسلامية الإيرانية التي كانت صدمة للاتحاد السوفيتي كما كانت للعديد من الدول الأخرى، ودفعت هذا الاتحاد إلى مأزق كبير. وقد ظل السوفييت يتساءلون عن سبب فشل أجهزتهم الأمنية والاستخباراتية في التنبؤ بهذه الثورة. ومن الأحداث الأخرى التي ساهمت في سقوط بريجنيف، التدخل السوفيتي في أفغانستان عام 1979. وقد تسبب هذا التدخل في خسائر فادحة في الأرواح والموارد، وأجبر الاتحاد السوفيتي في النهاية على الانسحاب من أفغانستان بشكل متسرع.
وبعد الثورة الإسلامية، عاد جميع أعضاء الحزب التوده الشيوعي الذين كانوا يقيمون في ألمانيا الشرقية إلى إيران. وفي تلك السنوات، تبنت هذه الحزب تكتيكًا جديدًا لدعم الثورة، مما أعطاه دفعة جديدة ظاهريًا. ولكن في الواقع، حافظوا على نفس أساليبهم الشيوعية بدعم من السفارة السوفيتية وأفغانستان ودول الكتلة الشرقية.
قبل ثلاثة أشهر من وفاة بريجنيف، وقع حادث آخر في عام 1982، وهو هروب فلاديمير كوزيكين، الضابط في جهاز الاستخبارات والأمن السوفيتي (الك جي بي) من إيران. وكان هذا الضابط قد وصل إلى إيران عام 1977 وعمل تحت إشراف جوارجين. وكان رئيس الك جي بي قد حذر جوارجين من أن إيران ليست كأفغانستان وباكستان، وأن الإيرانيين قادرون على إسقاطه في لحظة واحدة. وأمره بأن يعمل بحذر في إيران ويحذر من أجهزة المخابرات الإيرانية لأنها أكثر كفاءة من أجهزة المخابرات الأفغانية والباكستانية. وكان كوزيكين من المقيمين غير الشرعيين لجهاز الأمن السوفيتي. وكما جاء في مذكرات كوزيكين عن الك جي بي في إيران، فقد عانى منذ صباه من ازدواجية المعايير السائدة في المجتمع والأفكار المتناقضة مع الأفكار الشيوعية السائدة. وبعد عامين من إرساله إلى إيران، تواصل كوزيكين مع أجهزة الاستخبارات البريطانية. وبعد فترة، فر عبر الحدود التركية إلى بريطانيا، حيث شن حملة ضد الاتحاد السوفيتي. وسلم قائمة بأسماء الشيوعيين الإيرانيين إلى جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6)، والذي بدوره سلم القائمة إلى أجهزة الأمن الإيرانية، مما أدى إلى اعتقال عدد كبير من الشيوعيين الإيرانيين، وتم إعدام بعضهم ممن كانوا يعملون في مؤسسات حكومية مختلفة. واليوم، يشغل بعض الدبلوماسيين الروس الذين طُردوا من إيران في ذلك الوقت مناصب عليا في إدارة غرب آسيا بوزارة الخارجية الروسية، وهم يحملون ذكريات سيئة عن إيران.
شهد عهد بريجنيف ازدهار الاتحاد السوفيتي، وقام شاه إيران بزيارتين إلى الاتحاد السوفيتي خلال هذه الفترة. وفي زيارة الشاه عام 1965، تم الاتفاق على إنشاء مصانع للصلب والمناجم وغيرها من المنشآت الصناعية في إيران. وجرت الزيارة الثانية للشاه عام 1972 أثناء دراستنا في جامعة موسكو. وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية الإيجابية بين إيران والاتحاد السوفيتي، إلا أن جهاز السافاك كان يعامل الموظفين السوفييت والأمريكيين معاملة مختلفة، حيث كان يركز على تفتيش وتتبع السوفييت أكثر من الأمريكيين، مما أثار حفيظة السوفييت في إيران. فالأجهزة الأمنية لها إجراءاتها الخاصة التي قد تلغي جهود المؤسسات والوزارات الأخرى. وفي ذلك الوقت، كان موظفو الاتحاد السوفيتي العاملون في إيران يخضعون للتفتيش الجسدي الكامل يوميًا، بينما لم يجرؤ السافاك على فعل الشيء نفسه مع الأمريكيين. وقد جاء ذلك رغم الكفاءة العالية التي أظهرها الخبراء السوفييت في بناء مصنع الصلب في اصفهان والمصانع التابعة له، حيث تم الانتهاء من بناء المصنع في أربع سنوات، وتم بالتزامن مع ذلك تجهيز مناجم الفحم والحديد الخام والمواد الخام الأخرى اللازمة لأفران الصهر. وبعد الثورة، ولعدم موافقة الاتحاد السوفيتي على مقايضة البضائع، توجهت إيران إلى الشركات الإيطالية لبناء مصنع فولاذ مباركة في اصفهان. وقد بني المصنع اعتمادًا على الأفران الكهربائية، وهو ما يختلف عن التصميم السوفيتي. وكانت تكاليف الأفران الكهربائية مرتفعة جدًا، مما اضطر الحكومة الإيرانية إلى دفع تكاليفها بالعملة الصعبة لإيطاليا، في حين كانت إيران تصدر الغاز إلى الاتحاد السوفيتي. وقد زرنا مصنع بيانتي الإيطالي في عهد السيد عزدي، وهو مصنع حديث وتختلف فيه طريقة صهر المعادن، ولكنه كان مكلفًا للغاية. ولكن كما هو الحال دائمًا، استطاع الخبراء الإيرانيون بعد فترة من الزمن السيطرة على عمليات الإنتاج في مصنع فولاذ مباركة، ليصبح الآن أحد أحدث مصانع صهر المعادن في البلاد.
في عهد ستالين وخروتشوف وبريجنيف، فرّ العديد من أفراد الأجهزة الأمنية إلى الدول الغربية. فمثلاً، فرّ أوليغ كوفاليف إلى الغرب في عهد خروتشيف وسلمهم جميع المعلومات عن صناعة الصواريخ السوفيتية. وفي سلسلة هروب العناصر السوفيتية، قام الملازم الأول في سلاح الجو السوفيتي فيكتور فيلنكو في السادس من سبتمبر عام 1976 بالهروب إلى اليابان على متن طائرة ميج 25، وهي أحدث طائرة مقاتلة في ذلك الوقت. ولم يكن السوفييت يسمحون للطيارين بالطيران منفردين، إلا أن فيلنكو حصل على تصريح بالطيران الانفرادي ثم توجه إلى اليابان. وفي البداية، زعم السوفييت أن الطيار ضل طريقه وأجبرته القوات الجوية اليابانية على الهبوط. ولكن عندما التقى الطيار بالكونسول السوفيتي، صرح صراحة بأنه اختار الهروب إلى اليابان بسبب كرهه للنظام السوفيتي. ورغم كل المحاولات السوفيتية لاستعادته، باءت بالفشل. واحتفظ اليابانيون بالطائرة لمدة شهرين، وخلال هذه الفترة، قام خبراء أمريكيون بفحصها واستخلاص جميع المعلومات منها. وبعد شهرين، أعيدت الطائرة إلى الاتحاد السوفيتي.
وبعد 16 يومًا من هذه الحادثة، في 23 سبتمبر 1976، هبطت طائرة أنتونوف 2 يقودها طيار يدعى زاسيموف في الأراضي الإيرانية. وقد أضر هذا الحادث بسمعة الاتحاد السوفيتي على الساحة الدولية. وأرسل الاتحاد السوفيتي رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى شاه إيران، الذي بدوره استجاب وسلم الطيار والطائرة إلى السوفييت. وحُكم على زاسيموف بالسجن لمدة 12 عامًا في الاتحاد السوفيتي.
كانت إحدى أكبر حالات الهروب في تاريخ الاتحاد السوفيتي، خلال عهد بريجنيف، هروب أركادي شيفتشينكو، نائب الأمين العام للأمم المتحدة، إلى الولايات المتحدة عام 1978. وكان شيفتشينكو يتعاون مع الأجهزة الأمريكية قبل هروبه بسنوات، وقد عاش في الولايات المتحدة لسنوات طويلة. وكانت زوجته طموحة، وكانت تسافر بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وتقوم بتهريب السلع من الولايات المتحدة وبيعها في الاتحاد السوفيتي بأسعار مضاعفة. وقد صرح شيفتشينكو بأن زوجته كانت غير راغبة في العيش في الولايات المتحدة، وأن اهتمامها ينصب فقط على التجارة بين البلدين. وكان عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يسكنون في الطابق السفلي من منزله، وقد قدموا له مساعدة كبيرة أثناء هروبه. أما زوجته فبقيت في شقتها التي تحولت إلى متحف للأشياء الثمينة، وانتحرت فيها في النهاية. ورغم كل وسائل الراحة التي حصل عليها شيفتشينكو، فقد عبر عن سخطه من النفاق والتظاهر الذي كان يمارسه بعض الأشخاص الذين يزعمون أنهم خدّام الشعب ويعيشون في قصور فاخرة. وكان ابن شيفتشينكو يعمل في وزارة الخارجية السوفيتية، وعندما هرب والده، كان في مهمة في سويسرا، واستدعاه إلى موسكو بحجة نقل وثائق مزورة، ثم طُرد من الوزارة. وهكذا، انهارت أسرة شيفتشينكو بسبب هروبه. ولم يحظ شيفتشينكو بحياة سعيدة في الولايات المتحدة، حيث أنفق كل ما جمعه من بيع كتبه على النساء. أما ابنه، فلم ينتقد والده في مذكراته التي حملت عنوان "الهروب من ممرات وزارة الخارجية"، وواصل عمله كأستاذ في المؤسسات السوفيتية، ولم يتمكن من العودة إلى وزارة الخارجية.
زینب جلداوی، خبيرة في الشؤون السياسية والدولية